كيف نفهم النسخ ؟
{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .تدل هذه الآية على أنَّ اللّه عندما يرفع آية أو يزيلها لفظاً أو حكماً أو تلاوةً حسب اختلاف أنواع النسخ وأشكاله ،أو عندما ينسيها فلا يتذكرها النّاس ليبعدها عن الوجدان الفكري لهم ،لانتهاء دورها في المرحلة الجديدة ،لأنَّ مضمونها كان صالحاً لفترة سابقة على صعيد التشريع والتوجيه ؛فإنه لا يترك النّاس بدون هدايةٍ جديدة ،ولا يفوّت عليهم ما فيها من فوائد ومصالح ،بل يأتي بخير مما رفعه عنهم أو أنساهم إيّاه ،أو يأتي بمثلها في ما تفتح لهم من أبواب المعرفة ،لأنه قادر على كلّ شيء .
ذلك هو المفهوم الحرفي من اللفظ ،ولكن ماذا وراء ذلك ؟وما المناسبة فيه ؟.
قد تكون القضية واردة في الأجواء الفكرية التي كان يعيشها اليهود في استنكارهم لنسخ الكتب والشرائع السَّماوية بكتاب جديد أو شريعة جديدة ،كما ينادي به أتباع عيسى ومحمَّد( صلى الله عليه وسلم ) ،في ما جاء به عيسى من كتاب ،وفي ما جاء به محمَّد من كتاب وشريعة ،وكانوا ينطلقون في ذلك مما زعموه أساساً لاستحالة النسخ ،لأنَّ ذلك يؤدي إلى نسبة عدم الحكمة إلى اللّه إذا رفع الحكم أو الآية مع بقاء الموضوع على ما هو عليه من المصلحة ،أو يؤدي إلى نسبة الجهل إليه إذا كان يرى دوام المصلحة فتبيَّن عدم دوامها في حالة ارتفاع المصلحة السابقة .وعلى هذا الأساس ،كانوا يستنكرون فكرة النسخ بشكل كلّي ،فجاءت هذه الآية لتبيّن لهم وللمسلمين أنَّ اللّه يمكن أن يجري التشريع على مراحل ،فيجعل الحكم على أساس مصلحةٍ موقتة بزمان من دون أن يبيّن ذلك للنّاس ،بل يتركهم لتصوّرهم ليتخيّلوا استمراره لحكمةٍ في ذلك ،ثُمَّ تنتهي المصلحة السابقة لتبدأ مصلحة جديدة بحكم آخر ،أو لينزل آية أخرى مماثلة لما سبق في المصلحة أو أفضل منها فيرفع ما كان ،وذلك على قاعدة الحكمة البالغة التي اقتضت الجعل في البداية والنهاية .
وربَّما تكون الآية واردة في نطاق الأجواء الإسلامية في نسخ آيات القرآن ،بإزالتها حكماً وتلاوةً كما يدّعيه البعض ،أو تلاوةً لا حكماً كما يدّعيه بعض آخر في آيات الرجم ،أو حكماً لا تلاوةً كما ورد في بعض الآيات التي ادُّعِيَ نسخها في القرآن ؛وعلى هذا تكون الآية واردةً في تبرير ذلك ،وبيان أنَّ اللّه بيده رفع الآيات ووضعها ،وأنَّ الذي أنزل الآية قادر على أن يُنزل مثلها أو أفضل منها .
ونحن لا نوافق على نسخ التلاوة مع نسخ الحكم أو بدونه ،لأنَّ ذلك يؤدي إلى الالتزام بتحريف القرآن ونقصانه ،كما أنه لم يثبت إلاَّ بخبر الواحد الذي لا يثبت النسخ به على ما هو رأي جمهور المحقّقين مما هو مذكور في محله .
أمّا نسخ حكم الآية ،فهو ممكن في ذاته ،ولكنَّ هناك كلاماً بين العلماء في وقوعه في القرآن وعدمه ،وهذا ما لا مجال لتفصيل الحديث فيه هنا ،لأن مجاله في أبحاث علوم القرآن لا تفسيره ،ويمكن للقارىء الرجوع إلى كتاب «البيان في تفسير القرآن » لأستاذنا المحقّق السيِّد أبي القاسم الخوئي ،فقد وفّى هذا الموضوع حقّه .
علاقة الآية بالعصمة في سهو الأنبياء:
وقد ثار جدل كلامي حول الجانب المتعلّق بالنسيان في الآية ،فتباينت الآراء ،بين رأي لا يجوِّز ذلك لأنه يؤدي إلى التنفير عنه وعدم الثقة بكلامه ،لإثارته الاحتمال في كلّ ما يبلغه للنّاس ،فلا يبقى مجال للطمأنينة به ،وهذا ما ذهب إليه المحقّق الشيخ أبو جعفر محمَّد ابن الحسن الطوسي في تفسيره «التبيان » ،على ما نقله صاحب «مجمع البيان »[ 2] ؛وبين رأي يجوّز ذلك ،وهو رأي جماعة من المحقّقين ،فقد قالوا إنَّ من الممكن أن يكون النسيان لحكمة واستدلوا عليه بقوله تعالى:{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَآءَ اللّه إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}[ الأعلى:67] أي إلاَّ ما شاء اللّه أن تنساه ...وهذا بحث من أبحاث الكلام المتصلة بعصمة النبيّ عن الخطأ والسهو والنسيان في الموارد التي أريد له أن يزيلها من التشريع في حياة النّاس ،ونحن لا نريد الخوض في هذا البحث ،لأنَّ له مجالاً آخر .أمّا رأينا في هذا الموضوع ،فهو أنَّ الآية بعيدة عن هذا البحث ،لأنَّ النسيان وارد هنا على سبيل الكناية في ما يريد اللّه أن يزيله من التشريع بشكل غير مباشر ،في مقابل ما يريد إزالته بشكل مباشر ،وهو إبلاغ النبيّ بذلك عن طريق الوحي ،ولهذا فإنَّ إنساء اللّه إيَّاه ،ليس فيه محذور حتى على رأي من يرى عصمة النبيّ عن السهو والنسيان ،لأنه يعتقد ذلك في الموارد التي تدخل في نطاق الشريعة والحياة العامة الطبيعية ،لا في ما يدخل في نطاق الإرادة الإلهية التي تتدخل في نسخ الحكم بهذه الطريقة ،مما يعدّ جزءاً من حركة الرسالة وطريقتها في إبلاغ الشريعة سلباً أو إيجاباً .
وهناك قراءة أخرى: «أو ننسأها » ،من الإنساء وهو التأجيل والتأخير إلى أجل معين ،وهذا ما نستبعده لأنها واردة في سياق الاستبدال الذي يعني الإزالة في المبدل منه أساساً ؛واللّه العالم .
وقد يخطر بالبال أنَّ المراد بالآية في هذا الموضوع ،هو الآية التكوينية مما يدخل في عداد الظواهر الكونية ،أو المعاجز الإلهية التي يرسل بها الأنبياء .وربما يكون ذلك أوفق بمفهوم الآية عرفاً ،وأقرب إلى مدلول كلمة النسخ من حيث تعلّقها بالذات ،بينما هي متعلّقة بالحكم على المعنى المتقدّم مع فرض بقاء الآية في موقعها من القرآن ،كما أنها أكثر صلة بقدرة اللّه التي كانت ختام الآية ...وعلى ضوء هذا ،يكون مدلول الآية هو أنَّ اللّه قادر على أن يزيل الآيات التي يخلقها أو يرسل بها رسوله ويأتي بخير منها أو مثلها في الكون ،أو على يد الرسل ؛وبذلك تكون بعيدة عن جوّ النسخ بمعناه المصطلح ،ولكن كلمة «ننسها » قد لا تتناسب كثيراً مع هذا التفسير إلاَّ ببعض الوجوه البعيدة ؛واللّه أعلم بمعاني آياته .
مع صاحب الميزان في تفسير الآية:
وهناك وجه آخر في فهم الآية يرتكز على شموليتها للجانب التشريعي والتكويني والإنساني ،فقد جاء في تفسير الميزان في تفسير كلمة الآية ،قال: «إنَّ كون الشيء آية يختلف باختلاف الأشياء والحيثيات والجهات ،فالبعض من القرآن آية للّه سبحانه ،باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله ،والأحكام والتكاليف الإلهية آيات له تعالى ،باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه تعالى ،والموجودات العينية آيات له تعالى ،باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها وبخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته وأسمائه سبحانه ،وأنبياء اللّه وأولياؤه تعالى آيات له تعالى ،باعتبار دعوتهم إليه بالقول والفعل ،وهكذا ،ولذلك كانت الآية تقبل الشدّة والضعف ،قال اللّه تعالى:{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[ النجم:18] .
ومن جهةٍ أخرى ،ربما كانت الآية ذات جهة واحدة ،وربما كانت ذات جهات كثيرة ،ونسخها وإزالتها كما يتصوّر بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصوّر ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة ،كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك .
وهذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى:{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ،
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} »[ 3] .
وهذا المعنى طريف في ذاته ،ولكن إرادته من هذه الآية غير ظاهر ،لأنها واردة في الأشياء التي هي في معرض النسخ والإزالة مما يتعلّق بحياة النّاس ،بالمستوى الذي يثير الجدل فيما بينهم ،كما جاء الحديث به عن اليهود في حركة التشريع ،أو في تأكيد قدرة اللّه في خلقه ،بحيث لا تجري الحياة على شكل واحد ،بل يمكن أن تتغيّر وتتبدل لتتحرّك ظاهرة في مرحلة معينة لتحل محلها ظاهرة أخرى مماثلة لها أو أفضل منها انطلاقاً من قدرة اللّه .
وقد لا نجد مناسبة للتعبير عن الأشخاص بالآية من خلال نشاطهم ودعوتهم أو الحديث عنهم بعنوان النسخ ونحوه .
إنهاواللّه العالمإشارة إلى ما يكون في معرض الثبات والاستمرار ،ليكون النسخ مفاجئاً للنّاس ،فيحتاج إلى إزالة مضمون المفاجأة من أذهانهم ،لأنَّ اللّه الذي يملك القدرة على الإيجاد قادر على التبديل ،ولا دلالة في التعليل على ما ذكره ،لأنَّ الحديث عن قدرة اللّه يكفي في مناسبته وجود موضوع له في مسألة التشريع أو التكوين .
نسخ الآيات للإتيان بخير منها:
{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ}أي نزيلها من التشريع ،باعتبار أنَّ تبديل مضمونها من التداول في حياة النّاس إلى مضمون آخر وحكم آخر يمثّل إزالة عمليةً للآية حتى لو بقيت في القرآن لفظاً ،لأنها خرجت منه عملاً ،لتبقى في مضمونها مجرّد تاريخ في التشريع ؛أو نزيلها من الوجود كظاهرةٍ كونية تتبدل بظاهرة أخرى ،أو معجزة تنتهي لتأتي مكانها معجزة أخرى .أمّا معنى «الآية » ،فهو العلامة الظاهرة وحقيقته لكلّ شيء ظاهر هو ملازم لشيء لا يظهر ظهوره ،فمتى أدرك مدرك الظاهر منهما علم أنه أدرك الآخر الذي لم يدركه بذاته ،إذ كان حكمهما سواء ،وذلك ظاهر في المحسوسات والمعقولات ،فمن علم ملازمة العَلَم للطريق المنهج ،ثُمَّ وجد العَلَم علم أنه وجد الطريق ،وكذا إذا علم شيئاً مصنوعاً علم أنه لا بُدَّ له من صانع ،كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني[ 4] .
وقد تطلق على كلّ جملة من القرآن دالةٍ على حكم أية سورة كانت أو أي فصل من فصول السورة ،وقد يُقال لكلّ كلام منفصل بفصل لفظي ،وعلى هذا ،اعتبار آيات السورة التي تُعدُّ بها السورة ؛وقد تطلق على المعجزة وعلى الظواهر الكونية الدالة على وجود اللّه والمعاد وعلى الأشياء البارزة الملفتة للأنظار .
{ أَوْ نُنسِهَا}أي نهملها من الذاكرة أو نتركها ،فلا يكون لها أيّ أثر أو اعتبار في الواقع .{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا}في العناصر التشريعية التي قد تمنح النّاس نتائج أكبر من الأولى على مستوى حياتهم العامة أو الخاصة في التسهيل أو التيسير ،أو في ملاءمتها للمرحلة الثانية بشكل أفضل من الأولى التي كانت تنسجم مع المرحلة الأولى ،{ أَوْ مِثْلِهَا}في مستوى العناصر الكامنة في الآية الأولى ،وإن اختلفت في طبيعتها من حيث خصائصها ،كأي شيئين متماثلين في الدرجة مختلفين في الخصائص .
وبهذا يُجاب عن السؤال الذي يفرض نفسه أمام الكلمة ،وهو أنه إذا كان هناك تماثل بين الحكم النّاسخ والمنسوخ فما فائدة التغيير ،بأنَّ الخصائص قد تختلف لتكون في زمن منتجة للغاية التي كانت من أجلها ،وغير منتجة في زمن آخر لحاجتها إلى خصائص أخرى ،لأنَّ للزمن دوراً في فعلية الخصائص مع وحدة الغاية .{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}فَمَنْ يخلق الآية ويحرّكها في الوجود أو في التشريع الإنساني لمصلحة معينة في فترة معينة ،وَمنْ يبدع آية أخرى في مكانها بعد إزالة الأولى ،أو يشرّع حكماً تضمنته الآية بعد نسخ الحكم الأول ؟!فإنَّ اللّه لا يعجزه شيء في خلقه ،فإذا كان قادراً على الإيجاد ،فهو القادرفي الوقت نفسهعلى إعدام فعلية الوجود وتبديله بوجود آخر ،فإنَّ الموجودات خاضعة له في البداية في أصل وجودها ،كما هي خاضعة في النهاية بعد وجودها ،فلا يعطّل الوجود قدرته .