النسخ
{ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ( 106 ) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( 107 ) أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ( 108 )} .
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى بعض أفعال اليهود من إنكار وجحود وكفر بالنعمة وكفر بما يعرفون صدقه واتخاذ السحر وأوهامه واتباع ما يضر . . بين سبحانه النسخ لأنه يتضمن نسخ بعض ما جاء في التوراة وإن صدق أصله ، ونسخ المعجزات التي كان يأتي بها موسى عليه الصلاة والسلام ، ليؤمن بنو إسرائيل وآل فرعون ، ذكر الله تعالى نسخ الشرائع القديمة ونسخ المعجزات الحسية السابقة وأنه أتى بمعجزة هي القرآن ، وإنها أمر أوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان آخر صرح للنبوة ، إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم آخر لبنة في صرح النبوة ، وكان خاتم النبيين .
بعد ذلك تعرض النبي صلى الله عليه وسلم للنسخ في الشرائع والآيات .
النسخ معناه الإزالة كما تقول نسخت الشمس الظل ، أي أزالته وحلت محله ، ويطلق أيضا النسخ بمعنى نقل المكتوب كما قال:{ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ( 29 )} [ الجاثية] .
والآيات تطلق على طائفة من القرآن مفصولة عما بعدها كآية الكرسي ، وآيات المنافقين وآيات الربا ، وآية حد السرقة وغير ذلك من آيات الله تعالى البينات .
وتطلق على الآيات الكونية التي تدل على قدرة الله تعالى وعلى حكمته ، وبديع خلقه ومنها معجزات النبيين الحسية كالعصا ، وفلق البحر وإبراء الأكمه وإحياء الموتى بإذن الله ، والإخبار عما في بيوتهم ، ومن ذلك قوله تعالى:{ وجعلنا ابن مريم وأمه آية . . . ( 50 )} [ المؤمنون] ومن ذلك قوله تعالى:{ وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( 59 )} [ الإسراء] ومن الآيات الحسية قوله تعالى:{ أتبنون بكل ريع آية تعبثون ( 128 )} [ الشعراء] ؛ لأن البناء العالي فيه دلالة على براعتهم في البناء .
والنسخ في اصطلاح الفقهاء على أساس أن الآية هي الآية القرآنية هو إزالة حكم الآية ، ويقسمون النسخ إلى ثلاث:
القسم الأول – نسخ الحكم وبقاء التلاوة ، كما ادعوا لآيات نسخ حكمها وبقيت تلاوتها ، كآية تقديم الصدقة بين يدي الرسول إذا ناجوا الرسول في قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة . . . ( 12 )} [ المجادلة] .
والقسم الثاني – آية نسخت تلاوتها ولم ينسخ حكمها ، كما قيل إنه كان في القرآن آية "إذا زنى الشيخ والشيخة ، فارجموهما ألبتة"{[101]} فنسخت تلاوتها وبقي حكمها .
والقسم الثالث – وهو الأصل آيات محكمة لم يعرها نسخ ولا تأويل ، وهذا القسم يقولون إنه أكثر القرآن .
وفي هذا الكلام نظر يستبين مما نقول إن شاء الله تعالى .
ويقولون:إن هذه أقسام بالنسبة لذات النسخ ، أما بالنسبة للناسخ فيقولون القرآن ينسخ السنة ، ولكن يشترط الشافعي لنسخ القرآن للسنةأن يكون من السنة ما يدل على النسخ ، كالسنة التي دلت على نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة .
وادعوا نسخ القرآن بالسنة بل ادعوا نسخ عموم القرآن بأحاديث الآحاد .
وكل على تفسير الآية في قوله تعالى:{ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} . فإنها الآية القرآنية المشتملة على أحكام تكليفية بإلغاء تكليف ووضع تكليف آخر في موضعه كنسخ تحريم بإباحة ، أو إباحة بتحريم ، ولكن يلاحظ أن نسخ القرآن بالسنة لا يستقيم مع النص الكريم ؛ لأن النسخ يوجب أن يأتي بخير من المنسوخة أو مثلها ، ولا يمكن أن تكون السنة خيرا من القرآن أو مثله .
ولكن هل الآية تدل على وقوع النسخ ، أو تدل فقط على جوازه على فرض تفسير الآية بالآية القرآنية ( ولنا في ذلك نظر ) نقول إن الآية تدل على الإمكان لا على الوقوع ؛ لأن النص السامي بشرط وجواب هذا الشرط إذ إن "ما"من أسماء الشرط جزم به ننسخ وجوابه:{ نأت بخير منها أو مثلها} فهي دالة على الإمكان لا على الوقوع بالفعل ، والوقوع بالفعل يجيء من تتبع الأحكام الشرعية الناسخ منها والمنسوخة كما ادعى في الآيات التي ذكرنا ، والأحكام التي تكلم فيها الفقهاء مدعين فيها نسخ آيات بآيات .
فالآية لا تدل على وقوع النسخ ، ولا على لزومه .
وقبل أن ننتقل بتفسير الآية إلى معنى آخر نتكلم في معنى{ ننسها} وعلى هذه القراءة يكون ننسها من قلوب الناس لأنها من أنساهامن قلوب الناس ، أي أنه أنساها للناس ، وربما يتفق هذا على قول الذين يقولون إن ثمة آيات نسخت تلاوتها ، وبقيت أحكامها ، كما ادعى في الرجم .
وهناك قراءة ( ننسأها ) بفتحتين وهمزة ، وبمعنى نؤجلها من النساء بمعنى التأجيل ، وخرج بعض اللغويين القراءة الأولى{ أو ننسها} على هذا المعنى ، فقال إن الهمزة قلبت ياء إذ أصلها ننسئها فسهلت الهمزة فعوملت الياء معاملة حرف العلة فحذف في حال الجزم ، وعلى هذا المعنى تتلاقى القراءتان على معنى التأجيل ، ويكون المعنى لا نزيل حكم آية أو نؤجل حكمها ، إلا أتينا بخير منها أو مثلها
ثم قال تعالى مؤكدا جواب الشرط بقوله تعالت كلماته:{ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} والمعنى تعلم علما يقينيا مؤكدا أن الله تعالى على كل شيء قدير . وقدم قوله على كل شيء لاختصاصه تعالى بكمال القدرة وعمومها ،{ ألم} استفهام للنفي مع التنبيه ونفي النفي إثبات مع التنبيه وتأكيد العلم .
وهذا القول كله على تفسير الآية بمعنى الآية القرآنية .
وأولئك كما ذكرنا يقررون النسخ في القرآن ، وقرره الشافعي ، وغيره من الفقهاء الكبار ، وعلى رأسهم شيخهم أبو حنيفة وإمام دار الهجرة مالك وإمام السنة أحمد بن حنبل .
وحجة قولهم هذه الآية ، وما جاء عن الصحابة من نسخ بعض آيات لأخرى وإن كانوا يسمونه التخصيص كما أثر عن ابن مسعود أنه قال في قوله تعالى:{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا . . . ( 234 )} [ البقرة] وقوله تعالى في سورة الطلاق:{ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن . . . ( 4 )} [ الطلاق] وفيها ظاهر التفارق في المتوفى عنها زوجها الحامل ، فقرر ابن مسعود أنها تعتد بوضع الحمل ، وهذا تخصيص للآية الأولى بأنها لغير الحامل ، فقال رضي الله عنه:أشهد أن سورة النساء الصغرى ، أي الطلاق نسخت الكبرى . وهي قد خصصتها ، ولكن كان السلف يعتبرون التخصيص نسخا ، ولا مشاحة في الاصطلاح .
وإن النسخ في ذاته لا في القرآن بالذات لا ينكره أحد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربي المؤمنين ، ويدع الدين الحق في قلوبهم ، وقد مكث بينهم ثلاثة وعشرين عاما يربيهم ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، وما كانوا ليقبلوا ذلك التهذيب الكامل الذي ينقلهم من الجاهلية إلى العلم والتفكير ، والعمل التقي الطاهر دفعة واحدة ؛ بل لابد أن يأخذهم في رفق وأناة يقر أمورا على رجاء التغيير ، حتى تشرب قلوبهم حب الإسلام ، وحب آدابه ، ولقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:( ما من نبوة إلا تناسخت ) أي حولت النفوس بالتدريج ، وترك أمور في مرتبة العفو حتى تتشرب النفوس الحقائق الإسلامية ، وليس معنى ذلك أن الله تعالى كان يجهل الحقائق ثم علم وهو ما يسمى بالبداء ، والله تعالى منزه عنه تبارك وتعالى ، وإنما معناه أن الله عالم بكل شيء ، ولكن نبيه كان كالمربي الذي يتدرج بتعليمه حتى يشب ويعلو فكره ، فتتكامل الشريعة نزولا إذ تكامل عقله إدراكا وبيانا .
لذلك كان النسخ وكانت الأحكام التي تجيء في السنة موضع التناسخ الثابت بالحديث .
ولكن هل يجيء النسخ في القرآن ، قال جمهور العلماء ذلك مستدلين بقوله تعالى:{ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} ولكن نقول:إن الآية الكريمة كما في بيان الشرط وجوابه ، وتدل على الإمكان لا على الوقوع فعلا ، وإن هذا على أساس تفسير الآية بمعنى الآية القرآنية المشتملة على حكم تكليفي ، ولكن كلمة الآية تدل معانيها على الآية الكونية ، والمعجزات الكونية والحسية التي يجيء بها الرسل كإحياء عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله تعالى ، وإحياء الموتى من قبورهم ، وتصويره كهيئة الطير فينفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله تعالى ، وكعصا موسى عليه السلام التي فلقت البحر وفجرت الماء من الحجر ، وكإرسال الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات .
وإن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات أي معجزات دالة على رسالته كمعجزات عيسى وموسى ويظهر أن اليهود طلبوا مثلها ، فرد الله تعالى عليهم بقوله:{ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} أي ما ننزل آية لنبي أو رسول أو نؤجلها إلا أتينا بخير منها أو مثلها ، وفي ذلك إشارة إلى أن معجزة القرآن خير من المعجزات التي سبقت كمعجزة موسى وعيسى ؛ لأن معجزاتهم حوادث تنقضي ، وتنتهي بانتهاء وقتها ولا تؤثر إلا في نفوس من عاينوا ، وشاهدوا ، أما معجزة القرآن ، فإنها باقية خالدة تتحدى الأجيال كلها إلى يوم القيامة .
وإننا نميل إلى تفسير الآية بالمعجزة ، وذلك للأمور الآتية:
أولا – تعقيب النسخ والتغيير بقوله تعالى:{ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} فإن ذلك يتناسب بوضوح مع الآية بمعنى المعجزة القاهرة التي تدل ( على قدرة الله وصدق رسوله ) ، والمعجزة الكونية ، ولا تظهر مناسبة مع آية التكليف .
وثانيا – قوله تعالى:{ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض} فذكر هذا النص السامي يدل قياسا أن النسخ أو الترك يكون لآية كونية بخير منها ، تكون أبقى وأعظم أثرا .
ثالثا – أنه كان لوم على طلب آية أخرى ، فقد قال تعالى:{ أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} هذه الآيات كلها جاءت تالية لآية النسخ وهي في تواليها تناسب أن تكون الآية المنسوخة معجزة من معجزات الرسالة الإلهية ، ومعجزات النبيين .
ورابعا – أن النسخ يقتضي ألا يمكن الجمع بين الناسخ والمنسوخ ، وليس في القرآن آية تتعارض ، ولا يمكن التوفيق بينها ، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده .