وإن المشركين عبدة الأوثان لم ينزل عليهم كتاب بعد إبراهيم عليه السلام ، واليهود أهل كتاب سماوي ثم حرفوه من بعده ، ونسوا حظا منه وزادوا عليه أوهاما من عندهم ، وكتموا جزءا كبيرا مما بأيديهم . إن هؤلاء المشركين واليهود جمعهم أمران:أحدهما الكفر ، والثاني بغض محمد صلى الله عليه وسلم ، أو بغض ما جاء به ، فإذا فرقهم العلم بكتاب سماوي ، فقد جمعهم كفر وبغض لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولذا قال تعالى:{ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم} .
يود هنا معناها يحب ، وإن الود يجيء بمعنى محبة الشيء ، وبمعنى تمنيه ، وهي هنا بمعنى المحبة فقط ، وما هو بمعنى التمني قوله تعالى:{ ودوا لو تدهن فيدهنون ( 9 )} [ القلم] ، وقوله تعالى:{ ودوا ما عنتم . . . ( 118 )} [ آل عمران] .
وهنا تكون بمعنى المحبة ، أي ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ، ونفي المحبة يومئ إلى الكراهية ، أي يكرهون أن ينزل الله تعالى عليكم أي خير من ربكم ، وأعظم الخير من الله تعالى هو أن يكون رسولا من رب العالمين ، وربكم الذي رباكم وصنعكم على عينه .
وقدم سبحانه وتعالى أهل الكتاب على المشركين ؛ لأن الكلام كان في أهل الكتاب ؛ ولأنهم أشد جحودا وإعناتا ؛ ولأن الجحود منهم وهم أهل كتاب أشد من جحود غيرهم الذين لم يؤتوا كتابا ؛ فالجهل قد يكون عذرا أحيانا ، وإن لم يكن هنا عذرا . وإن سبب كراهية أن ينزل عليكم خير من ربكم يختلف عند المشركين عنه عند اليهود ، فهو عند المشركين كفر للوحدانية ، وخوف الرياسة ، والتنافس بين العشائر ، وأما عند اليهود ، فهو كراهية أن تكون الرسل في ولد إسماعيل ، وهم في طبيعتهم الحسد ، يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله .
وموضع الكراهية أن ينزل عليهم أي خير من ربهم ، وتنزيل الخير من رب الوجود هو الرسالة ، كان المشركون الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم ينفسون على عشيرته بني هاشم ، ولقد قال عمرو بن هشام أبو الحكم الذي لقبه الإسلام بأبي جهل في سبب كفره:( تنازعنا وبني عبد مناف الشرف:أطعموا فأطعمنا ، وسقوا فسقينا ، حتى تجاثينا على الركب ، وصرنا كفرسي رهان ، قالوا:منا نبي فأنى يكون ذلك ؟ والله لا نؤمن به ) .
واليهود قد علمنا أنهم كانوا يستفتحون به ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين .
ولقد رد الله تعالى كراهيتهم ، وأنه سبحانه وتعالى يسير في اختيار نبيه على مقتضى حكمته وإرادته فقال تعالى:{ والله يختص برحمته من يشاء} ، والله ذو الجلال والإكرام ، والفاعل المختار يختص برحمته من يشاء وهي رحمة الرسالة التي ترحم الناس أجمعين ، كما قال تعالى:{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( 107 )} [ الأنبياء] ورحمة القرآن الذي جاء هدى وشفاء ورحمة للمؤمنين .
فمعنى يختص برحمته ، أي يختص بحمل رسالته وقرآنه من يشاء ، أي من يختاره بحكمته والله أعلم حيث يجعل رسالته ، وإن ذلك من فضله ؛ ولذلك قال تعالى:{ والله ذو الفضل العظيم} أي صاحب الفضل العظيم الذي يلازمه سبحانه وتعالى ، فلا يكون منه إلا فضل عظيم يعم الناس أجمعين .