{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ( البقرة:136 ) .
التفسير:
قوله تعالى:{قولوا آمنا بالله}: الخطاب للرسول ( ص ) ،وأمته جميعاً ؛والمراد بالقول هنا القول باللسان ،وبالقلب ؛فالقول باللسان: نطقه ؛والقول بالقلب: اعتقاده ؛و «الإيمان »كما سبقهو التصديق المستلزم للقبول ،والإذعان ؛والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده ؛والإيمان بانفراده بالربوبية ؛والألوهية ؛والأسماء ،والصفات .
قوله تعالى:{وما أنزل إلينا} يعني وآمنا بما أنزل إلينا ؛ف{ما} اسم موصول مبني على السكون في محل جر عطفاً على لفظ الجلالة:{الله}؛وقوله تعالى:{وما أنزل إلينا} يشمل القرآنوهو منزل؛ويشمل السنة أيضاً ؛لقوله تعالى:{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} [ النساء: 113]: فإن{الحكمة} [ البقرة: 269] هي السنة .
قوله تعالى:{وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط}؛{إبراهيم} منزل إليه ؛لأنه نبي رسول ؛والذي أنزل إليه هي الصحف التي ذكرها الله تعالى في موضعين من القرآن:{صحف إبراهيم وموسى} [ الأعلى: 19] ،{أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى} [ النجم: 36 ،37]؛و{إسماعيل} نبي منزل إليه قطعاً ؛ولم نعلم ما الذي أنزل إليه بالتحديد ؛و{إسحاق ويعقوب} أيضاً منزل إليهما ؛لكن لم يذكر لنا ما الذي أنزل إليهما ؛و{الأسباط} جمع سِبْط ؛قيل: إنهم أولاد يعقوب ،ومنهم يوسف ؛وقيل: هم الأنبياء الذين بعثوا في أسباط بني إسرائيل الذين لم يذكروا بأسمائهم .
قوله تعالى:{وما أوتي موسى وعيسى} يعني: وما أعطوا من الآيات الشرعية ،والكونية ؛الشرعية كالتوراة لموسى ،والإنجيل لعيسى ؛والكونية كاليد والعصا لموسى ؛وكإخراج الموتى من قبورهم بإذن الله ،وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله لعيسى ؛ونص على موسى ،وعيسى ؛لأنهما أفضل أنبياء بني إسرائيل .
هنا قد يسأل سائل: لِمَ عبر الله تعالى بقوله:{وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل} ،وفي موسى وعيسى قال تعالى:{وما أوتي موسى وعيسى}؛فهل هناك حكمة في اختلاف التعبير ؟
فالجواب: أن نقول بحسب ما يظهر لناوالعلم عند الله: إن هناك حكمة لفظية ،وحكمة معنوية .
الحكمة اللفظية: لئلا تتكرر المعاني بلفظ واحد ؛لو قال: «ما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وما أنزل إلى موسى ...وما أنزل إلى النبيين » تكررت أربع مرات ؛ومعلوم أن من أساليب البلاغة الاختصار في تكرار الألفاظ بقدر الإمكان .
أما الحكمة المعنوية: فلأن موسى وعيسى دينهما باقٍ إلى زمن الوحي ،وكان أتباعهما يفتخرون بما أوتوا من الآيات ؛فالنصارى يقولون: عيسى بن مريم يُحيي الموتى ،ويفعل كذا ،ويفعل كذا ؛وهؤلاء يقولون: إن موسى فلق الله له البحر ،وأنجاه ،وأغرق عدوه ،وما أشبه ذلك ؛فبين الله سبحانه وتعالى في هذا أن هذه الأمة تؤمن بما أوتوا من وحي وآيات .
قوله تعالى:{وما أوتي النبيون من ربهم} من باب عطف العام على الخاص ؛والمراد بما أوتوه: ما أظهره الله على أيديهم من الآيات الكونية ،وما أوحاه إليهم من الآيات الشرعية ؛و{من ربهم}:{من} للابتداء ؛لأن هذا الإيتاء من الله ؛وإضافة الربوبية إليهم على وجه الخصوص ؛وإلا فالله سبحانه وتعالى رب كل شيء ؛لكن هذه ربوبية خاصة .
قوله تعالى:{لا نفرق بين أحد منهم} هذه الجملة داخلة في مقول القول ؛يعني: قولوا آمنا على هذا الوجه ؛{لا نفرق بين أحد منهم} أي في الإيمان ؛وليس في الاتّباع ؛والضمير في{منهم} يعود على الأنبياء .
قوله تعالى:{ونحن له مسلمون}؛{له} الضمير يعود على الله سبحانه وتعالى - يعني: ونحن لله؛وقدمه على عامله لإفادة الحصر ،ومناسبة رؤوس الآي ؛و «الإسلام » هنا هو الاستسلام لله ظاهراً ،وباطناً .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: وجوب الإيمان بالله ،وما أنزل إلينا ...إلى آخر ما ذكر في هذه الآية ؛لقوله تعالى:{قولوا آمنا بالله ...} الآية .
2 ومنها: أن الذين يؤمنون بوجود الله لكن يشركون معه غيره في ربوبيته ،وألوهيته ،وأسمائه ،وصفاته لم يكونوا مؤمنين .
3 ومنها: أن الذين يؤمنون بالله ،وبربوبيته ،وأنه الرب الفعال الخلاق الذي لا يشاركه أحد في هذا ،لكنهم يعبدون معه غيره ليسوا بمؤمنين .
4 ومنها: أن الذين يؤمنون بوجود الله ،وربوبيته ،وألوهيته لكن في الأسماء والصفات لا يؤمنونإما أن ينكروا الأسماء ،والصفات ؛وإما أن ينكروا الأسماء دون الصفات ؛وإما أن ينكروا بعض الصفاتهؤلاء لم يؤمنوا بالله حق الإيمان ،وإيمانهم ناقص .
5 ومنها: أن الكتب التي أوتيها الرسل قد نزلت من عند الله ؛لقوله تعالى:{وما أنزل إلينا} ،ولقوله تعالى:{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} [ الحديد: 25] .
6 ومنها: الإشارة إلى البداءة بالأهموإن كان متأخراً ؛لقوله تعالى:{وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم} مع أن ما أنزل إلينا متأخر عما سبق .
7 ومنها: الإيمان بما أوتي النبيون من الآيات الكونية ،والآيات الشرعية .
8 ومنها: أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل ،على حد سواء في أصل الإيمان ؛وأما الشرائع فلكلٍّ منهم جعل الله شرعة ومنهاجاً ،كما قال تعالى:{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} [ المائدة: 48] ؛فنحن مأمورون باتّباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي نسخت جميع الأديان ؛أما في الإيمان بأنهم رسل من عند الله ،وأنهم صادقون بما جاءوا به فإنا لا نفرق بين أحد منهم ؛لقوله تعالى:{لا نفرق بين أحد منهم} ،وقوله تعالى:{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} [ البقرة: 285] .
9 ومن فوائد الآية: وجوب الإخلاص لله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{ونحن له مسلمون} .
10 ومنها: أن الرسل ليسوا مستقلين بهذه الآيات ؛فلا يملكون أن يأتوا بهذه الآيات ،أو بهذا الوحي ؛فهم يتلقون من الله ؛حتى الرسول صلى الله عليه وسلم إذا طُلب منه الآيات لا يستطيع أن يأتي بها ؛ولهذا لما اقترح المكذبون عدة آيات قال تعالى:{قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولًا} [ الإسراء: 93] ،وقال تعالى:{وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين} [ العنكبوت: 50] ،أي فلا أملك أن آتي بالآيات .
11 ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يشعر أنه هو وإخوانه كنفس واحدة ،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً »{[170]} وشبّك بين أصابعه ؛لقوله تعالى:{ونحن له مسلمون}: فأتى بضمير الجمع:{قولوا آمنا بالله ...ونحن ...} .
12 ومنها: أن الإسلام لا بد أن يكون بالقلب ،واللسان ،والجوارح ؛لإطلاقه في قوله تعالى:{مسلمون}؛فيستسلم قلب المرء للهتبارك وتعالىمحبة ،وتعظيماً ،وإجلالاً ؛ويستسلم لسانه لما أمره الله سبحانه وتعالى أن يقول ؛وتستسلم جوارحه لما أمره الله تعالى أن يفعل .