{ قُولُواْ}أيها المسلمون لكلّ الذين يجادلونكم في الدِّين:{ ءَامَنَّا باللّه وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ}فنحن نؤمن باللّه الواحد ونؤمن بكلّ ما أنزل إلينا وإلى هؤلاء{ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى}من التوراة والإنجيل{ وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ}مما أنزله اللّه عليهم وكلّفهم به{ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} ،لأننا نؤمن بالرسل كلّهم مهما اختلفت خصوصياتهم ومراحلهم ،كما نؤمن بالكتاب كلّه مهما تنوّعت آياته ،{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ،فإننا نسلم إلى اللّه كلّ حياتنا وكلّ أمورنا ،لأنَّ الإسلام هو دين اللّه في كلّ مواقعه في حركة الرسل في التاريخ .
الحوار المنفتح على القلب ومواطن اللقاء:
ولنا في التعليق على هذه الآية كلمتان:
الأولى: أنها تمثّل أنموذجاً لأسلوب الحوار في الإسلام ،وخلاصته البحث عن مواطن اللقاء في بداية الحديث من أجل الإيحاء بوجود قاعدة مشتركة للفكر المتنوّع ،وأرض مشتركة للموقف المتعدّد ،ما يوحي للآخر بأنك إذا اختلفت معه في إيمانك بما أنزل إليك من القرآن ،فإنك لن تختلف معه في إيمانك بما يؤمن بهمن ناحية المبدأمن التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم ،وتعاليم النبوّات المشتركة بين الأديان من خلال الأنبياء الذين يلتقون على رسالات اللّه ،فيلتقي المؤمنون على الإيمان بهم .
وهذا الأسلوب من أوضح الأساليب وأكثرها حكمةً وانفتاحاً ،لأنه يخلق جوّاً نفسياً ملائماً يؤدي إلى حالةٍ حواريةٍ حميمةٍ تفتح العقل من خلال النافذة المطلة على القلب ،باعتبار أنَّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان هو الطريق الذي يؤدي إلى قلبه ،لأنه إذا أحبّك أحبَّ فكرك ،وإذا انفتح عليكمن الناحية الشعوريةانفتح عليك من الناحية العقلية .
ولعلّ مشكلة الكثيرين من النّاس أنهم يركزون على مواقع الخلاف التي تغلق القلوب بدلاً من مواقع الوفاق التي تفتحها ،لأنهم لا يعيشون المحبة للآخرين في الرسالة ،بل ينطلقون بها من موقع العقدة والحقد والانفعال ،حتى أعطوا الحقدالذي لا قداسة لهمعنى القداسة .
بين إنزال الرسالات وإيتائها:
الثانية: إنَّ هناك اختلافاً في التعبير في الآية ،فقد عبّر عمّا عندنا وعمّا عند إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالإنزال ،وعند موسى وعيسى والنبيين بالإيتاء وهو الإعطاء ،كما أشار إلى ذلك في تفسير الميزان ،فهل هناك نكتة في ذلك ؟
يذكر العلامة الطباطبائي أنَّ النكتة هي أنَّ اليهود والنصارى يعتبرون «إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من أهل ملتهم ،فاليهود من اليهود ،والنصارى من النصارى ،واعتقادهم أنَّ الملّة الحقّة من النصرانية أو اليهودية هي ما أوتيه موسى وعيسى ،فلو كان قيل: وما أوتي إبراهيم وإسماعيل ،لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملّة بالوحي والإنزال ،واحتمل أن يكون ما أوتوه هو الذي أوتيه موسى وعيسى ( ع ) نسب إليهم بحكم التبعية ،كما نسب إيتاؤه إلى بني إسرائيل ،فلذلك خصّ إبراهيم ومن عطف عليه باستعمال لفظ الإنزال ،وأمّا النبيون قبل إبراهيم فليس لهم فيهم كلام حتى يوهم قوله: وما أوتي النبيون شيئاً يجب دفعه » .
وخلاصة الفكرة هي أنَّ المطلوب هو بيان استقلالية إبراهيم ومَنْ بعده عن موسى وعيسى ،ما يفرض اختلاف التعبير الذي يوحي بتعدّد المواقع .ولكنَّنا نلاحظ أنَّ ذلك لا يدلّ على اختلاف فريق الإيتاء وفريق الإنزال في طبيعة الرسالة ،فلا مانع من أن يكون ما أوتيه إبراهيم وفريقه هو نفسه الذي أوتيه موسى وعيسى مع إنزال الوحي على هذا أو ذاك مع وحدة المضمون الرسالي في تنوّع الخصائص ؛وهذا ما يريد اللّه تأكيده في القرآن من الإيمان بالكتاب كلّه وبالرسل كلّهم الذين يلتقون على الخطوط العامة ،حيث يكون الإيمان بأحدهم إيماناً بالآخر .
هذا مع ملاحظة أخرى ،وهي أنَّ فريق إبراهيم لم يعلم أنه أوحي إليه غير ما أنزل على إبراهيم ،ولا سيما الأسباط الذين ذكر أنَّ المراد بهم يوسف وإخوته الذين لم يكونوا أنبياء ،لأنَّ الذين تآمروا على يوسف لا يمكن أن يكونوا في مستوى النبوّة ،فيكون الإيتاء لهم باعتبار أنهم من الأمّة التي يؤتى نبيّها الرسالة التي تؤمن بها .إننا لا نرى في اختلاف التعبير إلاَّ التنوّع فيه الذي يمنح الكلام حيويّةً وحركةً مع اتّحاد الفكرة .