أمر الله النبي بأن يدعو إلى اتباع ملة إبراهيم ثم أمر المؤمنون بمثل ذلك فقال{ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط} أي لا تكن دعوتكم إلى شيء خاص بكم يفصل بينكم وبين سائر أهل الأديان السماوية بل انظروا إلى جهة الجمع والاتفاق ، وادعوا إلى أصل الدين وروحه الذي لا خلاف فيه ولا نزاع ، وهو التسليم بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين ، مع الإسلام لرب العالمين ، لا نعبد إلا الله ، ولا نفرق بين أحد من رسل الله .
والأسباط أولاد يعقوب والفرق أو الشعوب الإثنى عشر المتشعبة منهم .قال تعالى{ 7:159 وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما} وقد ورد أن أولاد يعقوب كانوا أنبياء ولم يرد أنهم كانوا مرسلين فإن صح هذا كما يفهم من إطلاق الأستاذ الإمام في الدرس فالمراد بالأسباط الإطلاق الأول وإلا كان في الكلام تقدير مضاف أي أنبياء الأسباط ، كأنه قال:وسائر أنبياء بني إسرائيل وهو المختار ، ولم يصح في نبوة غير يوسف من أبناء يعقوب شيء .
{ وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم} قال الأستاذ الإمام وهاهنا نكتة دقيقة في اختلاف التعبير عن الوحي الذي منحه الله الأنبياء إذ عبر بأنزل تارة وبأوتي تارة أخرى ، وهي أن التعبير بأنزل ذكر هنا في جانب الأنبياء الذين ليس لهم كتب تؤثر ، ولا صحف تنقل ، وذلك أن إنزال الوحي على نبي لا يستلزم إعطاءه كتابا يؤثر عنه ، وهذا ظاهر إذا كان النبي غير مرسل فإن الوحي إليه يكون خاصا به ، ويكون إرشاده للناس أن يعملوا بشرع رسول آخر إن كان بعث فيهم رسول وإلا كان قدوة في الخير ومعدا للنفوس لبعثة نبي مرسل ، وأما النبي المرسل فقد يؤمر بالتبليغ الشفاهي ولا يعطى كتابا باقيا وقد يكتب ما يوحى إليه في عصره فيضيع من بعده ، فهؤلاء الرسل الكرام الذين عبر عنهم بقوله{ وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط} لا يؤثر عن أحد منهم كتاب مسند صحيح ولا غير صحيح ، وإننا نؤمن بأنهم كانوا أنبياء .وأن ما نزل عليهم هو دين الله الحق ، وأنه موافق في جوهره وأصوله لما أنزل على من بعدهم .
وما ذكر الله من ملة إبراهيم بالنص هو روح ذلك الوحي كله .وقد جاء في سورة النجم وسورة الأعلى ذكر صحف لإبراهيم .وقال الجلال هنا:إنها عشر .فنؤمن أنه كان له صحف ولا نزيد على ما ورد شيئا ، وأما إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط فلم يثبت أن لهم صحفا ولا كتبا ، فنؤمن بما أنزل إليهم بالإجمال ونعتقد أنه عين ملة إبراهيم وجاء التعبير عن وحي الذين كان لهم كتب تؤثر بقوله{ وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم} فهو يشير بالإيتاء إلى أن ما أوحي إليهم له وجود يمكن الرجوع إليه والنظر فيه فإن أقوامهم يأثرون عنهم كتبا .
وأقول الآن:إن المراد الإيمان بما أنزل الله تعالى وما أعطاه لأولئك النبيين والمرسلين إجمالا ، وأنه كان وحيا من الله فلا نكذب أحدا منهم بما ادعاه ودعا إليه في عصره ، بصرف النظر عما طرأ عليه من ضياع بعضه وتحريف بعض .فإن ذلك لا يضرنا ، لأن الإيمان التفصيلي والعمل مقصور على ما أنزل إلينا ، فقد روى البخاري من حديث أبي هريرة"أن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا{ آمنا بالله} الآية .وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن معقل بن يسار مرفوعا"آمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وليسعكم القرآن ".
وأما ما ذكر شيخنا من نكتة اختلاف التعبير فيشكل بقوله في أول الآية{ وما أنزل إلينا} أي معشر المسلمين وهو القرآن وقوله بعد{ وما أوتي النبيون} ولم يعلم أنه كان لغير داود منهم كتاب منزل .على أن عدم العلم بكتب أنزلت على إبراهيم وإسماعيل وإسحق لا يدل على عدم تلك الكتب .ولعل نكتة اختلاف التعبير أن يشمل ما أوتي موسى وعيسى تلك الآيات التي أيدها بها كما قال{ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} وقال{ وآتينا عيسى ابن مريم البينات} ثم قال{ وما أوتي النبيون من ربهم} ليدل على أن ذلك لم يكن خاصا بموسى وعيسى والله أعلم .
وقال بعد ما ذكر الفريقين{ لا نفرق بين أحد من رسله} أي سواء منهم من له كتاب يؤثر ومن ليس له ذلك ، نؤمن بالجميع إجمالا ونأخذ التفصيل عن خاتمهم الذي بين لنا أصل ملتهم التي كانوا عليها وزادنا من الحكم والأحكام ما يناسب هذا الزمان وما بعده من الأزمان ، والعمدة في الدين على إسلام القلب لله تعالى{ ونحن له مسلمون} أي مذعنون منقادون كما يقتضي الإيمان الصحيح ولستم كذلك أهل الكتاب وإنما أنتم متبعون لأهوائكم وتقاليدكم لا تحولون عنها .