{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ( البقرة:137 )
التفسير:
قوله تعالى:{فإن آمنوا} أي اليهود ،والنصارى ؛لأن هذه الآيات كلها متتابعة:{وقالوا كونوا هوداً أو نصارى ...قولوا آمنا بالله ...فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ...} .
قوله تعالى:{بمثل ما آمنتم به}: اختلف المعربون في الباء ،وفي «مثل » أيهما الزائد ؟فقيل: إن «مثل » هي الزائدة ،وأن التقدير: فإن آمنوا بما آمنتم به فقد اهتدوا ؛وأن «مثل » زائدة إعراباً لا معنًى ؛وأن المعنى: أنهم إن آمنوا بما آمنتم به إيماناً مماثلاً لإيمانكم ؛فعلى هذا تكون الزيادة في كلمة «مثل »؛وقيل: إن الزائد هو الباء - حرف الجر- ؛وأن التقدير: فإن آمنوا مثل ما آمنتم - أي مثل إيمانكم - ؛والباء الثانية أيضاً زائدة ؛فصار قولان: الأول: أن الزائد «مثل »؛والثاني أن الزائد الباء ؛والجميع اتفقوا على أن المراد الزيادة الإعرابية ؛وليست الزيادة المعنوية ؛لأنه ليس في القرآن ما هو زائد معنى - أي لا فائدة فيه - ؛والمعروف أن الأسماء لا تزاد ؛وأما الزيادة في الحروف فكثيرة ؛لأن الاسم كلمة جاءت لمعنى في نفسها ؛والحرف كلمة جاءت لمعنى في غيرها ؛ومعلوم أننا لو وزنا بالميزان المستقيم لكان ما يجيء لمعنى في غيره أولى بالزيادة مما يجيء لمعنى في نفسه ؛ولهذا أنكر بعض النحويين زيادة الأسماء ،وقالوا: لا يمكن أن تزاد الأسماء ؛لأنها جاءت لمعنى في ذاتها ؛بخلاف الحرف ؛فعلى هذا تكون الزيادة في الباء - أي فإن آمنوا مثل ما آمنتم - ؛أي مثل إيمانكم ؛وعلى كلا الاحتمالين من حيث الإعراب فالمعنى واحد - أي إن آمنوا إيماناً مطابقاً لإيمانكم مماثلاً له من كل الوجوه فقد اهتدوا - .
قوله تعالى:{فقد اهتدوا} أي سلكوا سبيل الهداية ؛و «الهداية » هنا هداية العلم ،والتوفيق ؛لأنهم آمنوا عن علم فوفِّقوا ،واهتدوا ؛والهداية هنا مطلقة كما أن المسلمين الذين آمنوا على الوصف المذكور مهتدون هداية مطلقة .
قوله تعالى:{وإن تولوا}: «التولي » الإعراض ؛أي عن الإيمان بمثل ما آمنتم به .
قوله تعالى:{فإنما هم في شقاق} جملة اسمية للدلالة على الاستمرار ،والثبوت ؛وأتت ب «إنما » الدالة على الحصر ؛أي فما حالهم إلا الشقاق ؛و{في} للظرفيةكأن الشقاق محيط بهم من كل جانب منغمسون فيه؛و «الشقاق » بمعنى الخلاف ؛وهو في كل معانيه يدور على هذاحتى في قوله تعالى:{وإن الظالمين لفي شقاق بعيد}: فبعضهم قال: «الشقاق » هنا بمعنى الضلال ؛ولكن الصحيح أن معناه: الخلاف ؛فكلما جاءت في القرآن فمآلها إلى الخلاف ؛ولكنها أشد ،حيث تفيد الاختلاف مع طلب المشقة على الخصم ؛ويدل لهذا أن أصل معنى «الشقاق » أن يكون أحد الطرفين في شق ،والثاني في شق آخر ؛وبهذا يكون الخلاف .
وكأن الإنسان إذا سمع{فإنما هم في شقاق} قد يهاب ،ويخاف ؛فطمأن الله تعالى المؤمنين بقوله:{فسيكفيكهم الله}؛هذه الجملة فيها فعل ،وفاعل ،ومفعولان ؛الفاعل: لفظ الجلالة ؛والفعل:{يكفي}؛والمفعول الأول: الكاف ؛والمفعول الثاني: الهاء ؛والسين هنا يقول العلماء: إنها للتنفيس ،وتفيد شيئين هما تحقق الوقوع ،وقرب الوقوع ؛بخلاف «سوف » فإنها تفيد التحقق ؛ولكن مع مهلة .
قوله تعالى:{وهو السميع العليم}؛{السميع} من أسماء الله ؛و{العليم} أيضاً من أسمائه - تبارك وتعالى - ؛وسبق تفسيرهما .
قد يقول قائل: يبدو لنا أن المناسب أن يقول: «وهو القوي العزيز » لأنه قال:{فسيكفيكهم الله} فما هو الجواب عن ختمها بالسمع ،والعلم ؟فالظاهر لي - والله أعلم - أنه لما كان تدبير الكيد للرسول ( ص ) من هؤلاء قد يكون بالأقوال ،وقد يكون بالأفعال ؛والتدبير أمر خفي ليس هو حرباً يعلن حتى نقول: ينبغي أن يقابل بقوة ،وعزة ؛قال تعالى:{وهو السميع العليم} أي حتى الأمور التي لا يُدرى عنها ،ولا يبرزونها ،ولا يظهرون الحرابة للرسول ( ص ) فإن الله سميع عليم بها ؛هذا ما ظهر لي - والله أعلم - .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: أنه لا بد أن يكون إيمان اليهود ،والنصارى مثل إيمان النبي صلى الله عليه وسلم ،وأمته حقيقة ،ووصفاً .
2 ومنها: أن ما خالف ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضلال ؛لأن الله سبحانه وتعالى علق الاهتداء بأن يؤمنوا بمثل ما آمن به الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته .
3 ومنها: أنه لا حجة لمن تولى عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الشقاق ،والمجادلة بالباطل ؛لقوله تعالى:{فإن تولوا فإنما هم في شقاق} .
4 ومنها: وقوع الشقاق بين أهل الكتاب ،والمسلمين ؛وعليه فلا يمكن أن يتفق المسلمون وأهل الكتاب ؛فتبطل دعوة أهل الضلال الذين يدْعون إلى توحيد الأديان ؛لقوله تعالى:{فإنما هم في شقاق} ؛فاليهود ،والنصارى لما لم يؤمنوا صاروا معنا في شقاق ؛وهذا الشقاق لا بد أن يؤدي إلى عداوة ،وبغضاء ؛وبالتالي إلى قتال ؛وهكذا وقع: فالمسلمون قاتلوا اليهود ،وقاتلوا النصارى - الروم كلهم نصارى - ؛ومن بعد ذلك قاتلوا النصارى في الحروب الصليبية ؛وسيقاتلونهم أيضاً مرة أخرى حتى يدخل الإسلام عاصمتهم الروم ؛ولا بد من هذا في المستقبل بإذن الله ؛وسنقاتل اليهود حتى يختبئ اليهودي بالحجر ،والشجر فينادي: «يا عبد الله ،هذا يهودي ورائي فاقتله إلا الغرقد ؛فإنه من شجر اليهود »{[171]} فلا يبَلِّغ عنهم .
5 ومن فوائد الآية: الوعيد الشديد لهؤلاء المتولين عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ؛لقوله:{فسيكفيكهم الله} .
6 ومنها: تكفل الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنهم إذا لم يؤمنوا بمثل ما آمن المؤمنون ،وتولوا ،فإن الله سبحانه وتعالى سيكفيه إياهم عن قرب ؛لقوله تعالى:{فسيكفيكهم الله}؛والحمد لله أنه صار ذلك عن قرب: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُتوفَّ حتى أجلى اليهود عن المدينة ،وفتح حصونهم في خيبر ،وأبقاهم فيها عمالاً ؛وفي خلافة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أجلاهم من خيبر ؛فكفى الله المؤمنين شرهموالحمد لله.
7 ومن فوائد الآية: الإشارة إلى التوكل على اللهتبارك وتعالىفي الدعوة إليه ،وفي سائر الأمور ؛لأنه إذا كان وحده سبحانه وتعالى هو الكافي فيجب أن يكون التوكل والاعتماد عليه وحده ؛ولهذا قال الله سبحانه وتعالى:{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [ الطلاق: 3] .
8 ومنها: إثبات الاسمين الكريمين{السميع} ،و{العليم} ،وما يتضمناه من الصفات والمعاني العظيمة .
9 ومنها: أنه يجب على المرء مراقبة الله سبحانه وتعالى في جميع أقواله ؛لأن الله سبحانه وتعالى سامع لها لا يخفى عليه الصوت مهما خفي ؛بل هو يعلم عزّ وجلّ ما توسوس به نفس الإنسان - وإن لم يتكلم به
10 ومنها: مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر ،والعلن ؛وذلك ؛لأن مقتضى اسمه الكريم:{العليم} أنه يعلم كل شيء .