إن ذلك هو الإيمان الحق ، وهو الإيمان الجامع غير المفرق ، ولذلك كان هو ميزان الإيمان الصادق الموحد للناس حول ربهم ، وهو الوحدانية لله تعالى ، والوحدة في الرسالة الإلهية ، ولذا قال تعالى:{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} .
الضمير في قوله تعالى:{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} يعود إلى اليهود والنصارى ، لأنهم هم الذين ظنوا أن الاهتداء عندهم فقط ،{ وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا . . . 135} [ البقرة] وأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم:{ قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين 135} [ البقرة] .
وفي الآية السابقة صورة للإيمان الموحد الجامع الذي لا يفرق ، فإن آمن اليهود والنصارى بمثل ذلك الإيمان الجامع غير المفرق فقد اهتدوا ، لا أن يكونوا قد اهتدوا بما هم عليه من الانحياز المفرق .{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} والمعنى فإن آمنوا بإيمان مثل الذي آمنتم به ، أي مشابه له من حيث إنه يجمع الناس على الوحدانية لله تعالى ، والوحدة في الرسالة ، والوحدة في الإنسانية بالصورة التي أنتم عليها فقد اهتدوا ، فكلمة "مثل"في موضعها من القول ولها دلالتها ، فالمراد –وعند الله تعالى علمه –أن يؤمنوا بما آمنتم على أن يكون مثله في المعنى الجامع ، ولقد تهجم بعض المفسرين في العصر الحديث ، فقال إن مثل "مقحم"أستغفر الله لي وله ، أنه ليس في القرآن مقحم ، إنما ألفاظ القرآن الكريم ليس فيها مقحم قط ، إنما هي تنزيل من حكيم حميد .
ونقول إن الإيمان الذي ثبت من قوله تعالى:{ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل} إلى آخر الآية الكريمة ، يتحقق فيه أمران:أولهما –الإيمان بالوحدانية ، والثاني- الصفة الجامعة ، فالمثلية ليست في أصل الإيمان ، وإنما هي في الصور الجامعة غير المفرقة .
ولذا قال تعالى:{ وإن تولوا فإنما هم في شقاق} التولي هو الترك الجسمي والبعد الذي يدل على الإعراض النفسي فإن أعرضوا عن الإيمان الجامع للرسالة الإلهية فهم في شقاق مستمر ، لأن من ترك الوحدة في الرسالة الإلهية فقد اختار النزاع والمجادلة ، وحيث دخل النزاع في الدين كانت العصبية والتعصب ، والانحياز ، ويفقد الدين سلطانه في القلوب ، ويصير لجاجة ، وعداوة وبغضاء بين الناس ، ويكون كل ملة أو دين في شق منحاز لا يلتقي ولا يهتدي ، ولذلك قال:{ في شقاق} ، والشقاق:أن يكون كل جانب في شق من الأرض أو الفكر والنفس .
وانه عند ذلك تكون العداوة المستحكمة من أولئك الذين تولوا عن الحق وأعرضوا عن الدين الجامع إلى الفرقة المعادية ، وكأن الله تعالى ينبه نبيه الأمين ، إلى أن يتوقع منهم الشر ، والبغضاء المستمرة ، ولذلك أشار سبحانه إلى أنه معه ، وأنه ناصره تعالى عليهم:ولذا قال تعالى:{ فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} والمعنى:إذا أظهروا العداوة المفرقة على الوحدة المقربة ، وصاروا أعداء لكم فسيكفيكهم ، أي فسيكون الله تعالى كافيا لك ، ومانعك منهم . يقال كفاك هذا الرجل ، أي منعك ودافع عنك ، و "السين"هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل ، ف "السين"و"سوف"الدالان على المستقبل القريب أو البعيد ، يدلان مع ذلك على تأكيد الوقوع ، والمؤدى أن عداوتهم سترد في نحورهم وسيكون وبالهم عليهم .
وقد أكد سبحانه وتعالى حمايته لنبيه ولمن معه بقوله تعالى:{ وهو السميع العليم} أي أنه سبحانه وتعالى عليم بما ينوون ، وما يخفون وما يعلنون ، عليم علم من يسمع ، ومن صفاته العلم فهو يعلم ما يكون وما يقع ، وإنه بذلك العلم المحيط الدقيق يعلم خائنتهم ، ويكفيك أمرهم ، إنه نعم المولى ونعم النصير .