{ ) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ) ( البقرة:198 )
التفسير:
لما أمر الله بالتزود ،وبيَّن أن خير الزاد التقوى ،وأمر بالتقوى ،قد يقول قائل: إذا اتجرت أثناء حجي صار عليّ في ذلك إثم ؛ولهذا تحرج الصحابة من الاتجار في الحج ؛فبين الله عزّ وجلّ أن ذلك لا يؤثر ،وأنه ليس فيه إثم ؛فقال تعالى:{ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} أي أن تبتغوا الرزق ،وتطلبوه بالتجارة ؛كقوله تعالى:{وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [ المزمل: 20] .
قوله تعالى:{فإذا أفضتم من عرفات}؛أصل الإفاضة الاندفاع ؛ومنه إفاضة الماء ؛ومنه الإفاضة في الكلام ،والاستمرار فيه ؛ومعنى{أفضتم}: دفعتم ؛والتعبير ب{أفضتم} يصور لك هذا المشهد كأن الناس أودية تندفع ؛و{عرفات} على صيغ الجمع ؛وهي اسم لمكان واحد ؛وهو معروف ؛وسمي عرفات لعدة مناسبات:
قيل: لأن الناس يعترفون هناك بذنوبهم ،ويسألون الله أن يغفرها لهم .
وقيل: لأن الناس يتعارفون بينهم ؛إذ إنه مكان واحد يجتمعون فيه في النهار ؛فيعرف بعضهم بعضاً .
وقيل: لأن جبريل لما علَّم آدم المناسك ،ووصل إلى هذا قال: عرفت .
وقيل: لأن آدم لما أهبط إلى الأرض هو وزوجته تعارفا في هذا المكان .
وقيل: لأنها مرتفعة على غيرها ؛والشيء المرتفع يسمى عُرْفاً ؛ومنه: أهل الأعراف ،كما قال تعالى:{ونادى أصحاب الأعراف رجالاً} [ الأعراف: 48]؛ومنه: عُرْف الديك ؛لأنه مرتفع ؛وكل شيء مرتفع يسمى بهذا الاسم .
وعندي - والله أعلم - أن هذا القول الأخير أقرب الأقوال ؛وكذلك الأول: أنه سمي عرفات ؛لأن الناس يعترفون فيه لله تعالى بالذنوب ؛ولأنه أعرف الأماكن التي حوله .
و{عرفات} مشعر حلال خارج الحرم ؛ومع ذلك فهو الحج ،كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة »{[333]} ؛والحكمة من الوقوف فيها أن يجمع الحاج في نسكه بين الحل والحرم ؛ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تحرم بالعمرة من التنعيم{[334]} ؛لتجمع فيها بين الحل والحرم .
قوله تعالى:{فاذكروا الله عند المشعر الحرام} الفاء هنا واقعة في جواب الشرط ؛وأداة الشرط: «إذا »؛وقوله تعالى:{فاذكروا الله} أي باللسان ،والقلب ،والجوارح ؛فيشمل كل ما فعل عند المشعر من عبادة ؛ومن ذلك صلاة المغرب ،والعشاء ،والفجر ؛و{المشعر} مكان الشعيرة ؛فهي «مَفْعَل » اسم مكان ؛وهو المكان الذي تؤدى فيه شعيرة من شعائر الله عزّ وجلّ ؛و{الحرام} أي ذي الحرمة ؛لأنه داخل حدود الحرم ؛وقال العلماء: إن هذا الوصف وصف قيدي ؛ليخرج المشعر الحلالوهو عرفة؛وقالوا: إن المشعر مشعران: حلالوهو عرفة؛وحراموهو مزدلفة.
قوله تعالى: ( واذكروه كما هداكم}؛أمر بالذكر مرة أخرى ؛لكن لأجل التعليل الذي بعدهوهو الهداية؛لهذا الكاف هنا للتعليل ؛و «ما » مصدرية تسبك ،وما بعدها بمصدر ؛فيكون التقدير: واذكروه لهدايتكم ؛والكاف تأتي للتعليل ،كما قال ابن مالك في الألفية:
شبه بكاف وبها التعليل قد يعنى وزائداً لتوكيد ورد ومن ذلك قوله تعالى:{كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ...} [ البقرة: 151] الآية ؛وكما في التشهد في قوله: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ...» ،أي لأنك صليت على إبراهيم فصل على محمد ؛فهو توسل إلى الله تعالى بفعل سبق منه نظير ما سألته .
ويحتمل أن تكون الكاف للتشبيه ؛وعليه فيكون الأمر بذكره ثانية عائداً على الوصفأي اذكروه على الصفة التي هداكم إليهاأي على حسب ما شرع ؛وعليه فلا تكرار ؛لأن الأمر بالذكر أولاً أمر بمطلق الذكر ،والأمر به ثانية أمر بكونه على الصفة التي هدانا إليها .
وقوله تعالى:{هداكم} أي دلكم ،ووفقكم .
قوله تعالى:{وإن كنتم من قبله لمن الضالين}؛{إن} مخففة من الثقيلة ؛فهي للتوكيد بدليل وجود اللام الفارقة ؛والتقدير: وإنكم كنتم من قبله لمن الضالين ؛واسم{إن} ضمير الشأن محذوف ؛وهو مناسب للسياق ؛وبعض النحويين يقدر ضمير الشأن دائماً بضمير مفرد مذكر غائب فيكون التقدير: وإنهأي الشأن والصواب القول الأول أنه يقدر بما يقتضيه السياق - يعني: وإنكم كنتم من قبله لمن الضالين - ؛وجملة:{كنتم من قبله لمن الضالين} خبر{إن} المخففة ؛والضمير في قوله تعالى:{من قبله} يعود على القرآن ؛أو يعود على الرسول ؛أو يعود على الهدى ؛كل ذلك محتمل ؛وكل ذلك متلازم ؛فالهدى جاء من القرآن ،ومن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى:{لمن الضالين}: يشمل الضال عن جهل ؛والضال عن علم ؛فالضال عن جهل: الذي لم يعلم بالحق أصلاً ؛والضال عن علم: الذي ترك الطريق الذي ينبغي أن يسلكه - وهو الرشد - ؛والعرب من قبل هذا الدين ضالون ؛منهم من كان ضالاً عن جهل ؛ومنهم من كان ضالاً عن علم ؛فمثلاً قريش لا تفيض من عرفة ؛وإنما تقف يوم عرفة في مزدلفة ؛قالوا: لأننا نحن أهل الحرم ؛فلا نخرج عنه ؛فكانوا يقفون في يوم عرفة في مزدلفة ،ولا يفيضون من حيث أفاض الناس ؛وإذا جاء الناس وباتوا فيها خرجوا جميعاً إلى منى ؛وهذا من جهلهم ،أو عنادهم .
الفوائد:
1من فوائد الآية: جواز الاتجار أثناء الحج بالبيع ،والشراء ،والتأجيركالذي يؤجر سيارته التي يحج عليها في الحج ؛لقوله تعالى:{ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} .
2ومنها: أنه ينبغي للإنسان في حال بيعه ،وشرائه أن يكون مترقباً لفضل الله لا معتمداً على قوته ،وكسبه ؛لقوله تعالى:{أن تبتغوا فضلاً من ربكم} .
3ومنها: ظهور منة الله على عباده بما أباح لهم من المكاسب ؛وأن ذلك من مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى ،حيث قال تعالى:{فضلاً من ربكم} .
4ومنها: مشروعية الوقوف بعرفة ؛لقوله تعالى:{فإذا أفضتم من عرفات}؛وهو ركن من أركان الحج ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة »{[335]} ؛لو قال قائل: إن قوله تعالى:{فإذا أفضتم من عرفات} ليس أمراً بالوقوف بها .
فالجواب: أنه لم يكن أمراً بها ؛لأنها قضية مسلمة ؛ولهذا قال تعالى:{فإذا أفضتم من عرفات} .
5ومنها: أنه يشترط للوقوف بمزدلفة أن يكون بعد الوقوف بعرفة ؛لقوله تعالى:{فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام}؛فلو أن أحداً مر بمزدلفة في الليل ،ووقف بها يدعو ،ثم وقف بعرفة يدعو بها ،ثم رجع إلى منى لم يجزئه الوقوف بمزدلفة ؛لأنه في غير محله الآن ؛لأن الله ذكره بعد الوقوف بعرفة .
6ومنها: أن الصلاة من ذكر الله ؛لقوله تعالى:{فاذكروا الله عند المشعر الحرام}؛والنبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ: بالصلاة{[336]} ؛ولا شك أن الصلاة ذكر لله ؛بل هي روضة من رياض الذكر: فيها قراءة ،وتكبير ،وتسبيح ،وقيام ،وركوع ،وسجود ،وقعود ؛كل ذلك من ذكر الله: ذكر بالقلب ،وباللسان ،وبالجوارح ؛ثم من خاصية الصلاة أن كل عضو من أعضاء البدن له ذكر خاص به ،وعبادة تتعلق به .
7ومنها: بيان أن مزدلفة من الحرم ؛لقوله تعالى:{عند المشعر الحرام} .
8ومنها: جواز المبيت في مزدلفة في جميع نواحيها ؛لقوله تعالى:{عند المشعر الحرام} .
9ومنها: أن عرفة مشعر حلال ؛لأنها من الحل ؛ولهذا يجوز للمحرم أن يقطع الأشجار بعرفة .
10ومنها: أن مزدلفة مشعر من المشاعر ؛فيكون فيه رد على من قال: إن الوقوف بها سنة ؛والقول الثاني: أنه ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفة ؛والقول الثالث: أنه واجب يصح الحج بدونه ؛ولكن يجبر بدم ؛وأنا أتوقف بين كونها ركناً ،وواجباً ؛أما أنها سنة فهو ضعيف ؛لا يصح .
11ومنها: أن الإنسان يجب عليه أن يذكر الله تعالى لما أنعم عليه به من الهداية ؛لقوله تعالى:{واذكروه كما هداكم} إذا جعلنا الكاف للتعليل ؛وإن جعلناها للتشبيه فالمعنى: اذكروه على الوجه الذي هداكم له ؛فيستفاد منها أن الإنسان يجب أن يكون ذكره لله على حسب ما ورد عن الله عزّ وجلّ .
12ومنها: أن الذكر المشروع ما وافق الشرع ؛لقوله تعالى:{واذكروه كما هداكم}؛والهداية نوعان: هداية دلالة: وهذه عامة لكل أحد ؛فكل أحد قد بين الله له شريعته سواء وفِّق لاتباعها ،أم لا ؛ودليلها قوله تعالى:{وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [ فصلت: 17] ،وقوله تعالى:{إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} [ الإنسان: 3]؛والثاني: هداية توفيق بأن يوفق الله العبد لاتباع الهدى ؛ومنها قوله تعالى حين ذكر من ذكر من الأنبياء:{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [ الأنعام: 90] ،وقوله تعالى:{إنك لا تهدي من أحببت} [ القصص: 56] أي لا توفق للهدى من أحببته ،أو من أحببت هدايته .
13ومن فوائد الآية: تذكير الإنسان بحاله قبل كماله ؛ليعرف بذلك قدر نعمة الله عليه ؛لقوله تعالى:{وإن كنتم من قبله لمن الضالين}؛ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: «ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي »{[337]} ؛ومنه قول الملَك للأبرص والأقرع: «ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيراً فأغناك الله »{[338]} الحديث ؛فالتذكير بالنعم بذكر الحال ،وبذكر الكمال بعد النقص مما يوجب للإنسان أن يزداد من شكر نعمة الله عليه .