ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ( 198 )
هذه الآيات الكريمة في ذكر بقية مناسك الحج ، وقد ابتدأت الآيات السابقة ، فذكرت ابتداءه وأشارت إلى انتهائه ، وكيف يكون الانتهاء ، وفي هذه الآية بيان أو بالأحرى إشارة إلى ركن الحج الركين الذي يفوت الحج بفواته ، وهو الوقوف بعرفات . فهذه الآيات وما سبقها في موضوع واحد .
و قد انتهت الآية السابقة بأن الحاج عليه أن يتزود من المعاني الروحية ، لأنها لب الحج ومعناه ، وغايته ومرماه:[ فإن خير الزاد التقوى] . وقد ابتدأت هذه الآيات ببيان أن التزود الروحي لا يتنافى مع بعض الأغراض المادية ، إذا توافرت التقوى ، وتسامت النفس وعلت قوة الروح ، فإن المادة في هذه الحال تكون مطية الروح ، وفي خدمة المبادئ الفاضلة ، فليست التقوى في الإسلام هي التجرد النفسي ، والانخلاع من دواعي الجسم أو تعذيب الجسم لتطهير الروح ، إنما التقوى في الإسلام تقوية الروح لتسيطر على الجسم ، وتقوية الجسم ليؤدي مقاصد الروح ، ويصل إلى غاياتها ومراميها ، ولذلك أردفت الآية الداعية إلى طلب الزاد الروحي من التقوى بالآية التي تنفي الإثم عن مطالب الجسد ، مادامت خاضعة لقوة الإرادة والعقل ، لأن المادة ومقتضياتها من ملاذ ومتع ليست محرمة في الإسلام ، بل هي محللة على أن تكون أمة للعقل والروح والإرادة الحازمة الفاضلة لا أن تكون سيدا حاكما مسيرا ، أو أن تكون الغاية والقصد ، فتلك هي الحيوانية .
[ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم] الجناح هنا الإثم ، وأصله من جنح إذا مال ، يقال جنحت السفينة إذا مالت ، وقال تعالى:[ و إن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله . . .21] ( الأنفال ) . ولما كان الإثم ميلا متطرفا نحو الباطل صارت كلمة الجناح تطلق على الإثم لما فيه من معنى الانحراف المائل عن الحق ، والابتغاء:الطلب الشديد . والفضل أصل معناه الزيادة وهي تكون في الخير وفي الشر ، ولكن يعبر عن الزيادة القبيحة بأنها فضول ، وعن الزيادة في الخير بأنها فضل فزيادة العالم على الجاهل فضل ، وزيادة المصلح على المفسد فضل ، وزيادة الأعمال والمقاصدالخيرة على غيرها فضيلة .
و تطلق كلمة فضل ويراد بها المال الحلال من التجارة التي لوحظت فيها الفضيلة ، ولقد جاء ذلك في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى:[ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 10] ( الجمعة ) ، وقد تطابقت كلمة المفسرين على أن الفضل في هذه الآية الكريمة هو المال الحلال المكتسب من التجارة أو غيرها ، لأنه جاء في السنة النبوية التصريح بذلك ، فقد كان الناس يتأثمون من الاتجار في عشر ذي الحجة الأولى{[231]} ، لأنهم يحسبون أن تلك الأيام تكون للعبادة خالصة لا يخالطها أي أمر من أمورا لدنيا وكانوا يسمون من يتجر في هذه الأيام الداج لا الحاج ، لأنهم أعوان الحجيج في غايتهم الروحية فنزل قوله تعالى:[ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم]
و لقد روي أن رجلا سأل ابن عمر فقال:إنا قوم نكري ، أي نستأجر ، فهل لنا من حج ؟ فقال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية:[ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم]{[232]} .و المعنى على هذا:ليس عليكم إثم أن تبتغوا رزقا حلالا في أيام الحج ، على أن تكونوا في طلبكموأخذكم للأسباب معتمدين على الله الخالق المنعم الذي رباكم ،و أنشأكم ونماكم ، فإضافة الرزق إلى الله تعالى ليس معناه أن نطلبه بالدعاء والتفويض ، بل معناه أن نأخذ في الأسباب ونسعى ،ثم نفوض أمور المقادير إلى مدبر الكون العليم الخبير .
و إباحة طلب المال في الحج لا يقتصر على الاتجار الآحادي ، أو طلب المال من الآحاد فقط ، بل يشمل العمل على التبادل الجماعي ، ونمو الاقتصاد بين الأقاليم الإسلامية ، فأهل الخبرة بشؤون المال من الحجاج يتصل بعضهم ببعض من الأقاليم المختلفة ، ويعرف أهلكل إقليم ما عند الآخرين من فاضل الرزق الذي تخرجه أرض الله ، وما ينقصهم من أسباب الحياة ، ويتبادلون الفائض ، ويسدون النقص وهو ما يسمى في لغة العصر الحاضر التبادل التجاري ، فيعم الخير ، ولا يكون إقليم من الأقاليم الإسلامية في نقص من الموارد ،و آخر في الكثير منها .
و هذه تكون إحدى منافع الحج المادية التي اشتمل عليها قوله تعالى:[ ليشهدوا منافع لهم . . .28] ( الحج ) .
و لقد قال بعض العلماء:إن الاتجار وطلب المال هو من قبيل الرخصة ، لأن الله لم يطلبه بل نفى الإثم ، فقد قال:[ ليس عليكم جناح] ونفي الإثم يشير إلى أنه عفو ، لا مباح ، أي أن الأولى تركه ، ونحن نخالف أصحاب هذا الرأي لأن الرخصة تقتضي أن تكون هناك عزيمة مانعة من الكسب ، ولم يقم دليل على منع الكسب ، فيبقى على الإباحة الأصلية ، وجاءت الآية الكريمة مؤكدة لهذه الإباحة بنفي الإثم ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ الذين يتوهمون أن الاتجار مانع من الحج ، ولا يكون الفعل من قبيل العفو إلا إذا كان موضعه غير مباح ، ولكنه لأحوال خاصة نفى الإثم نحو كل لهو باطل إلا لعب الرجل بقوسه . .إلخ . وطلب المال الحلال أمر مباح بإطلاق ، ولقد قال رجل لعمر رضي الله عنه:وهل كانت معايشهم إلا في الحج ؟
و فوق ذلك أن المعنى العام الذي يهيأ له الحج وهو التبادل التجاري بين المسلمين أجمعين ، بأن يقدم كل إقليم فائض ما عندهلأهل الإقليم الذي ينقصه ، هو أمر مطلوب يقوي الوحدة الإسلامية ، وهو إحدى منافع الحج المذكورة في قوله:[ ليشهدوا منافع لهم . . .28]( الحج ) كما نوهنا ، فما نفى عنه الإثم هنا ذكر فائدة هناك ، فكان مشروعا على سبيل الإباحة من الآحاد ، وأحسب أنه مطلوب على سبيل الوجوب من الجماعات الإسلامية ، فهو من قبيل المباح من الجزء المطلوب بالكل ، أي أنه مباح للآحاد أن يتجروا في الحج ، وواجب على جماعات كل إقليم وأهل الخبرة منهم أن يقيموا أسباب التبادل التجاري ، فالحج فرصته المهيأة لهم ، ولا فرصة سواه ، أو تبلغ درجته .
[ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام] الفاء هنا لتفصيل بعض ما أجمل من قبل في قوله تعالى:[ فمن فرض فيهن الحج . . .197]( البقرة ) إلخ . والإفاضة السير متدافعين في جمع متزاحمين ، وذلك تشبيه لهم بالماء إذا أفاض ودفع بعضه بعضا فانتشر وسال من حافتي الوادي أو الإناء . وعرفات هو الجبل المعروف الذي اتفق الفقهاء على أن الوقوف عنده هو ركن الحج الأكبر حتى لقد قال عليه السلام ، كما ذكرنا من قبل:"الحج عرفة"وسمي اليوم التاسع يوم عرفة ، لأنه اليوم الذي يقف فيه الحجيج في ذلك الجبل الذي شرفه الله ذلك التشريف ، وقد اختلف في السبب في تسميته عرفات مع اتفاقهم على أنه اسم مرتجل لا منقول ، فقال بعضهم:لأن إبراهيم عليه السلام عرفه بمجرد أن وصف له .
و قيل لأن إبراهيم عليه السلام علمه جبريل فيه مناسك الحج ، فكان يقول:عرفت ، عرفت . وقيل لأن عرفات من عرف بمعنى طيبه الله بالعرف بخلاف منى ، فإن فيها الذبح وأفراث الذبائح . وأحسن تعليل للتسمية ما جاء في الزمخشري:قيل لأن الناس يتعارفون فيها . وهذا ما أختاره ، وإن كانت الأسماء لا تعلل ، وذلك لأن عرفات يجتمع الناس جميعا عليه في وقت واحد ، فيجري التعارف بينهم ، وليست هذه الخاصة في غيره من المناسك ، فغيره يؤدى إفرادا أو جماعة ، أما هذا فيؤدى في جماعة زاخرة ، هي جماعة الحجاج أجمعين .
و المشعر الحرام:هو المزدلفة ، وسمي كذلك ، لأنه من معالم الحج التي لا يصح أن بعمل فيها إلا ما ورد به النص ، وهو منسك له حرمة وتقديس ، وقد سمي المزدلفة ، لأن الحجيج يزدلفون إليه من عرفات ،كما سمي جمعا ، لأنهم يجتمعون فيه ، ولأنهم يجمعون فيه صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير ، كما يجمعون بين صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم في عرفات . ووقت الوقوف بعرفات عند الجمهور{[233]}من بعد زوال اليوم التاسع إلى فجر اليوم العاشر ، والوقوف بمزدلفة بعد فجر اليوم العاشر .
و قد روى المسور بن مخرمة أن رسول الله النبي الله عليه وسلم خطب الناس فقال:"أما بعد هذا اليوم الحج الأكبر ، ألا وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس ، إذ كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم ، وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفا هدينا هدى أهل الشرك "{[234]}ويبين ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يدفع من عرفات بعد الغروب ويدفع من المزدلفة قبل الشروق ، بينما المشركون كانوا يدفعون من عرفات قبل أن تغيب الشمس ، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس .
و الوقوف بالمزدلفة ليس شأنه في الحج شأن الوقوف بعرفات ، فجمهور الفقهاء اتفق على أن من تركها لا يفوته الحج{[235]} .
و عرفات لها امتدادات أربعة ، فهي تمتد في أولها:إلى طريق في المشرق ، وثانيها:يمتد إلى حافة الجبل الذي وراءها ، وثالثها:إلى البساتين التي تلي قرينها على يسار مستقبل الكعبة ، والرابع:وادي عرنة ، وليس منها ، ولذا لا يصح الوقوف فيه .
و المزدلفة تمتد من عرفات إلى واد محسر ، وليس منها ، بل هو في أصله مسيل ماء ، وقد استوت أرضه الآن{[236]} .
و إن الآية الكريمة تشير إلى ذلك العمل الإجماعي الذي يقوم به الحجيج ، وقد وقفوا في عرفات تهز أعطافهم ، وتنير قلوبهم ابتهالات جموعهم الضارعة ، وتلبيتهم نداء الله الجامع ، وتعلو الأرواح ، وتسمو عن منازل الأشباح ، تنادي الألسنة رب العالمين ، وتناجي القلوب علام الغيوب ، حتى إذا قضوا الساعات في تلك المشاهد الربانية ، وتلك المدارك الروحية ، أفاضوا مسرعين إلى المشعر الحرام ، سائرين حيث سار محمد النبي الكريم ، ومن قبله أبو الأنبياء إبراهيم ، وقد طولبوا بالذكر الحكيم ، بأن يذكروا الله وهم في المشعر الحرام بالقلوب المبتهلة الخاشعة ،و بالألسنة الجاهرة التي تقرع أجواز الفضاء بذكر الله العلي العظيم ( الله أكبر الله أكبر ،الله أكبر لا إلاه إلا الله ، الله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد ) .
[ و اذكروه كما هداكم وإن كنتم من قلبه لمن الضالين] الخطاب في هذه الجملة الكريمة ، إما أن نجعله خطابا خاصا بالذين صاحبوا النبي صلى الله عليه وسلم إذ أنجاهم ربهم من ضلال الوثينة ورجسها إلى نور الوحدانية وسموها ، ويكون المعنى اذكروا الله وقوموا له بحق العبودية ، واملئوا قلوبكم وألسنتكم وأعمالكم لا يقصد بها إلا وجه الله ، فإن ذلك ثمن الهداية ، وأجر التوفيق ،و لذا قال:[ و اذكروه كما هداكم] أي في مقابل هدايتكم ، فالكاف التي تفيد في أصل معناها التشبيه تقتضي أن يكون المعنى اجعلوا الذكر لله مشابها ومساويا للهداية الربانية التي فاض نورها عليكم ، وإنكم لتعلمون ذلك الفضل السابغ ،و إشراق الهداية إن تذكرتم ما كنتم عليه من قبل ذلك النور الذي قذف الله به في قلوبكم ، ولذا ذكر حالهم [ و إن كنتم من قبله لمن الضالين] إن هنا هي المخففة من الثقيلة ، أي إن حالكم أنكم كنتم من قبل هدايته من زمرة الضالين وجماعتهم ، فاعرفوا ماضيكم من حاضر أولئك الذين ما زالوا على ضلالهم ووازنوا بين حالكم وحالهم ، فإن تلك الموازنة تريكم نعمة ربكم عليكم ، وتريكم حالكم كما كنتم من قبل ، ولذا عبر عن حالهم الماضية بالوصف إذ قال:[ و إن كنتم من قبله لن الضالين]أي من هذه الزمرة الضالة التي ترون حالها ، ولم يقل إنكم ضللتم من قبل .
و إذا كان الخطاب للصحابة الأولين فعلى غيرهم أن يعرف فضل الهداية ،و إن لم يسبقها ضلال ،فليذكر الله إذ وفقه من أول الأمر ، وكان في الإمكان أن يكون من الضالين .
و إن جعلنا الخطاب في الآية لجماعة المسلمين عامة الماضين واللاحقين الذين توارثوا الهداية الإسلامية ولم يسبق إليهم شرك ، ولم يكونوا من أهل الوثنية ، يكون الذكر لأن الله جنبهم إياها ، فباعد عنهم أسبابها ، فإن معنى الهداية هو إنقاذ نفوسهم من وساوس الشيطان ، فإن له على كل قلب لمة ، فإن أصابت من كتب الله عليه الضلال انحدر فيه ، وإن أصابت من كتب الله عليه الهداية تذكر الله وعظمته ، فساق الله إليه هدايته ، ويكون المعنى اذكروا الله سبحانه وتعالى ذكرا مساويا لهدايتكم مشابها لها ، وبقدرها ، وإنكم لولا هذه الهداية كنتم من الحائرين ، ولولا نور الحق لبقيتم في حيرتكم أو لسرتم في مخارف الشيطان .