] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ[.ورد في بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت( ع ) ،أنَّ هذه الفقرة واردة لبيان الرخصة للمؤمنين في ممارسة الأعمال التجارية بعد فراغهم من الحج ،لأنهم كانوا يشعرون بالحرج في ذلك ،وربما كانوا يعانون من الشعور بعقدة الذنب في حال ممارستهم لها .وهذا المعنى ظاهر من الآية من خلال التعبير بعبارة:] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ[ المشعرة بأنَّ هناك إحساساً لديهم بوجود شيء من هذا القبيل ،ولأنَّ التعبير عن السعي في طلب الرزق ،بالابتغاء من فضل اللّه ،هو من التعابير القرآنية المألوفة ،كما ورد في قوله تعالى في سورة الجمعة:] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاَْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّه وَاذْكُرُواْ اللّه كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ [ الجمعة:10] .وربما يكون في هذا التعبير إشارة إلى أنَّ طلب الرزق لا يتنافى مع الأجواء النفسية الروحية التي يحصل عليها من العبادة ،لأنه طلب من فضل اللّه ،كما أنَّ العبادة انطلاق في آفاق اللّه .وقد أشرنا في ما تقدّم إلى الأحاديث الواردة في اعتبار طلب الحلال عبادة تقرّب الإنسان إلى اللّه ،بل ورد في بعضها أنَّ العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال .
وفي ضوء ذلك ،يمكننا فهم الواقعية الإسلامية في خطّ التشريع العبادي في امتثال الحج الذي يختلف عن الصلاة والصوم ،بأنه عبادة متحرّكة في انطلاق النّاس من كلّ مكان في العالم إلى البيت الحرام الذي يؤدون فيهأو قريباً منهمناسك حجهم في أعمال معينة ،وأوقات محدودة لا تتنافى مع القيام بنشاطٍ آخر يتصل بالجانب الاقتصادي الذي قد تتاح فيه للنّاس هناك أكثر من فرصةٍ لإقامة علاقات تجارية مع بعضهم البعض ،بحيث توفّر عليهم قطع المسافات البعيدة التي قد يضطرون إلى الذهاب إليها في مجالٍ آخر ،كما يمكنهم فيه ممارسة التجارة الفعلية مستفيدين من هذا الموسم العالمي الذي يلتقي فيه النّاس من سائر أنحاء العالم ليشتروا ما يحتاجون إليه من الأغذية والألبسة والهدايا التي يأخذونها معهم إلى أهلهم ...وهكذا نجد أنَّ موسم الحج يساهم في إيجاد سوق «إسلامية » منفتحة على النشاط التجاري الفعلي ،والعلاقات الاقتصادية بين رجال الأعمال من مختلف الشعوب الإسلامية التي قد تتحوّل إلى علاقات سياسيةٍ وأمنيةٍ وثقافيةٍ في تطوّرها العملي في نهاية المطاف ...
وقد جاء في رواية هشام بن الحكم عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) ما يشير إلى ذلك ،فقد سأله هشام عن الصلة التي من أجلها كلّف اللّه العباد الحج والطواف بالبيت ،فقال ( ع ) « ..أمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدِّين ،ومصلحتهم من أمر دنياهم ،فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ،ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ،ولينتفع بذلك المكاري والجمّال ،ولتعرف آثار رسول اللّه ( ص ) وتعرف أخباره ،ويذكر ولا ينسى ،ولو كان كلّ قوم [ إنما] يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا ،وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح ،وعميت الأخبار » .
وهذا ما يؤكد خطّ التوازن الإسلامي في وعي مسألة الدنيا في حاجاتها والآخرة في غاياتها .فليس هناك تناقض بينهما ،بل إنَّ السير في خطّ التشريع الإسلامي يضمن للإنسان الدنيا والآخرة ،فتكون الدنيا مزرعة للآخرة ،وتكون الآخرة غاية تحقّق للدنيا طهارتها وصفاءها وحركيتها في طريق اللّه .
في عرفات ..والمشعر الحرام:
] فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ[.من أعمال الحج أن يقف النّاس في عرفات من الزوال إلى الغروب وقفة خاشعة فيها الكثير من العبادة والتأمّل والنفاذ إلى أعماق الروح في لحظة صفاء ونقاء ...إنها وقفة الحياة أمام اللّه تستلهمه وتستهديه وتفتح قلبها أمامه في آلامها وآمالها من أجل أن يلهمها الصواب في ما تفكر ،ويهديها الصراط المستقيم ،ويجعل لها من أمرها يسراً ،فيكشف عنها آلامها ويحقّق لها أحلامها ...
وقد نستوحي كلّ ذلك من ملاحظة أنَّ النُسك هنا الوقوف في عرفات ،تماماً كما لو أنَّ الإنسان يعيش في رحلة طويلة تجهده ،وتتعبه ،وتكلّفه الكثير من الخسائر ،وتواجهه بالكثير مما يقوم به من أعمال ومشاريع ...فيشعر بالحاجة إلى وقفة يتخفف فيها من متاعبه ،ويراجع فيها حساباته ،ويعرف فيها ماذا بقي له من الرحلة وما مضى منها ،ليبدأ من موقع التجدّد الروحي الذي يملأ كيانه في رحلة جديدة واعية لكلّ أوضاع الحاضر والمستقبل .
ويفيض الحاج من عرفات بعد أن يستكمل هذا الموقف الروحي في التأمّل الخاشع ،والدعاء المنفتح على اللّه ،والصلاة السابحة في آفاقه ،لينتقل إلى فريضة أخرى مماثلة ،ولكن في مكان آخر:] فَاذْكُرُواْ اللّه عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ[ الذي يجب فيه الوقوف من جديد من طلوع الفجر إلى طلوع الشمسعلى مذهب الإماميةوفي ما بين الطلوعينعلى رأي الآخرينوهي وقفة جديدة في وقت جديد ،يعيش الإنسان فيها ذكر اللّه الذي هدانا إلى طريق الحقّ بعد أن كنّا من قبله من الضالين] وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ[،فنعرف بذلك نعمة الهدى ونتلمس فيه معنى النعمة في ما يوحيه للإنسان من معاني الرضى والروح والطمأنينة ،ويبعده عن نوازع الشك والقلق والضياع ،ويوجهه إلى الحياة الرحبة الطاهرة الخالية من كلّ دنس أو رجس أو التواء ،والقريبة إلى الحبّ والخير والسَّلام ،أو يؤدي بهفي نهاية المطافإلى عفو اللّه ورضوانه في جنّة عرضها السَّماء والأرض أعدّت للمتقين ،ما يضمن له خير الدنيا والآخرة ،وينطلق ليتعرففي مقابل ذلكالنتائج السلبية للضلال في داخل النفس وخارجها ،في الحياة الفردية والاجتماعية في الدنيا وفي الآخرة ...وبذلك يحسّ بالشكر العميق لنعمة الهدى ،ويعيش الشعور بالامتنان للّه الذي وهبه هذه النعمة بأكثر مما يحسّ به إزاء النعم المادية التي وهبها له في هذه الحياة .
ولعلّ في التذكير بحالة الضلال دعوة إلى أن يدخل الإنسان في عملية مقارنة بين حياته في داخل أجواء الضلال وبين حياته في أجواء الهدى ،ليعرف نعمة الهدى من مواقع حياته الطبيعية لا من مواقع الفكر والنظرية فحسب .