إلغاء النوازع الطبقية:
] ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس[: يُقال إن قريش كانت لا تفيض من حيث يفيض النّاس ،لأنها تشعر بموقعها المميّز الذي يختلف عن مواقع النّاس من حيث العلو والرفعة والكبرياء ،فكانت لا تقف بعرفات .وقد جاء في ما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس: «كانت العرب تقف بعرفة ،وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة ،فأنزل اللّه:] ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس[» .
لقد جاءت هذه الآية لتلغي من نفوسهم كلّ هذه النوازع الطبقية التي تدفعهم إلى الاستعلاء على الآخرين ،لا سيما في مثل هذا الموقف الذي أراده اللّه من أجل إلغاء كلّ الفوارق التي تميّزهم عن بعضهم البعض ،ليشعروا بالصفة الواحدة التي تجمعهم أمام اللّه ،وهي أنهم عباد اللّه الواحد الأحد ؛فلا فضل لأحد على أحد إلاَّ بالتقوى ،فلا معنىبعد ذلكلأن يميّز أحد نفسه عن أخيه في موقع أو في ظرف انطلاقاً من الشعور بالتفوّق والكبرياء .
وهناك تفسير آخر للآية: وهو «أنَّ المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر عن الجبائي ،قال: والآية تدل عليه ،لأنه قال:] فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ[ ثُمَّ قال:] ثُمَّ أَفِيضُواْ[،فوجب أن يكون إفاضة ثانية ،فدلّ ذلك على أنَّ الإفاضتين واجبتان ،والنّاس المراد به إبراهيم ،كما أنه في قوله:] الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاس[ [ آل عمران:173] نعيم بن مسعود الأشجعي » .
ولعلّ الوجه الأول أقرب وأظهر ،لأنَّ إرادة شخص واحد من النّاس خلاف الظاهر ،فلا يصار إليه إلاَّ بدليل .ولا دليل هنا على ذلك ،كما لا دليل فيها على أنَّ هناك إفاضتين ،لأنَّ كلمة الإفاضة من عرفات ذكرت لبيان التشريع .أمّا الآية الثانية فربما وردت لبيان الطريق الذي يسلكه الحجاج في الإفاضة وهو الطريق العام .
] وَاسْتَغْفِرُواْ اللّه[ ودعاهم بعد ذلك إلى أن يستغفروه من كلّ ما يمكن أن يحدث في أنفسهم من المشاعر السلبية البعيدة عن خطّ الإيمان وروحيته ووعدهم بالمغفرة والرحمة ،] إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ لأنَّ الرحمة والمغفرة من صفاته الذاتية التي امتنّ بها على عباده ليدخلهم في رحمته ورضوانه .