{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} جعل المفسر ( الجلال ) كغيره الخطاب هنا لقريش خاصة إذ ورد في حديث عائشة عند الشيخين أن قريشا ومن دان دينهم وهم الحمس كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع العرب في عرفات ، فأمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها أي إبطالا لما كانت عليه قريش فالمراد بهذه الإفاضة الدفع من عرفات كالأولى قال:وثم للترتيب في الذكر .وأنكر الأستاذ الإمام هذا لأن الأسلوب ينافيه وذلك أن الخطاب في الآيات كلها عام قال وهم يذكرون هذا كثيرا ولا يذكرون له نكتة تزيل التفاوت من النظم ، ويمكن أن يقال هنا إنه بعد أن ذكر كذا وكذا من أحكام الحج قال هذا كأن المعنى هكذا:بعد ما تبين لكم ما تقدم كله من أعمال الحج وليس فيها امتياز أحد على أحد ، ولا قبيل على قبيل ، وعلمهم أن المساواة وترك الفاخر من مقاصد هذه العبارة ، بقي شيء آخر وهو أن تلك العادة المميزة لا وجه لها ، فعليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد .
والمتبادر أن المراد بالإضافة هنا الدفع من مزدلفة لأنه ذكر الدفع من عرفات في خطاب المؤمنين كافة ، وهو لا يكون إلا بعد الوقوف فعلم أنهم سواء في الوقوف بعرفات وفي الإفاضة منها إلى مزدلفة ، وبعد أن أمرهم بما يتوقع أن يغفلوا عنه فيها عند المشعر الحرام منها ذكر الإفاضة منها .وقوله ( ثم ) يفيد أن الإفاضة من مزدلفة يجب أن تكون مرتبة على الإفاضة من عرفات ومتأخرة عنها ففيه تأكيد إبطال تلك العادة وقوله{ من حيث أفاض الناس} يشعر بأنه لا معنى للامتياز في الموقف ترفعا عن الناس إذ كانوا بعد ذلك يتساوون في الإفاضة ، فإن غير قريش من العرب كانوا يفيضون من المزدلفة أيضا فالآية تتضمن ما كانت عليه قريش مع كون المراد بالإفاضة فيها من مزدلفة ، ولعل هذا هو المراد من الأثر وأنه روي بالمعنى ، والظاهر أن المراد بالناس الجنس وقيل إبراهيم وإسماعيل ومن كان على دينهما .
وقوله{ واستغفروا الله} يراد به استغفار مما أحدثوا بعد إبراهيم من تغيير المناسك وإدخال الشرك وإعماله فيها ، وإلا فهو استغفار من الضلال الذي ذكرهم به في الآية قبلها ، ومن عامة الذنوب في الحج وغيره ، وهذا هو الذي يوجه إلى من بعد أولئك الذين أسلموا في الصدر الأول بعد أن كانوا مشركين{ إن الله غفور رحيم} أي واسع المغفرة والرحمة لمن استغفره تائبا منيبا .