{ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} كان للعرب في الجاهلية مجامع في المواسم يفاخرون فيها بآبائهم ويذكرون أنسابهم وفعالهم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية يقفون في المواسم يقول الرجال منهم:كان أبي يطعم ويحمل الحملات ويحمل الديات .ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم ، فأنزل الله هذه الآية .ولابن جرير عن مجاهد كانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا عند الجمرة وذكروا آبائهم الخ وروي أنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل يتفاخرون ويتعاكظون{[131]} ويتناشدون ، فأمرهم الله تعالى بأن يذكروا الله تعالى بعد قضاء المناسك وهي أعمال الحج كما كانوا يذكرون آبائهم في الجاهلية أو أشد من ذكرهم إياهم .وقد كان في حجة الوادع أن خطب النبي في اليوم الثاني من أيام التشريق فأرشدهم إلى ترك تلك المفاخرات .
روى أحمد من حديث أبي نظرة قال حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أوساط أيام التشريق فقال ( يا أيها الناس إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى .أبلغت ؟ ) قالوا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى:{ أو أشد ذكرا} معناه ظاهر وهو بل اذكروه أشد من ذكركم آباءكم وفيه من الإيجاز ما ترى حسنه .قال الأستاذ الإمام:وقد تعسف في إعرابه الذين حكموا النحو الذي وضعوه في القرآن ، ويعجبني قول بعض الأئمة وأظن أنه أبو بكر بن العربي:من العجيب أن النحويين إذا ظفر أحدهم ببيت شعر لأحد أجلاف الأعراب يطير فرحا به ويجعله قاعدة ، ثم يشكل عليه إعراب آية من القرآن فلا يتخذها قاعدة ، بل يتكلف في إرجاعها إلى كلام أولئك الأجلاف وتصحيحها به كأن كلامهم هو الأصل الثابت .ويعجبني أيضا ما قاله أبو البقاء وهو أن للقرآن إيجازا واختصارا في بعض المواضع المفهومة من المقام ، وهو أن المعنى هنا أو كونوا أشد ذكرا ، ومثل هذا شائع في اللغة .وقال الأستاذ هنا كلمته التي يكررها في مثل هذا المقام وهي أنه كان يجب أن يكون القرآن مبدأ إصلاح في اللغة العربية ، وقد ذكرناها من قبل .
ثم بين تعالى أن الذين يذكرونه فيدعونه على قسمين{ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق} الخلاق النصيب والحظ .ذكر تعالى أن هذا الفريق يطلب حظ الدنيا مطلقا ولم يقل إنه يطلب حسنة فيها ، لأن من كانت الدنيا كل همه لا يبالي أكانت شهواته وحظوظه حسنة أم سيئة ، فهو يطلب الدنيا من كل باب ، ويسلك إليها كل طريق ، لا يميز بين نافع لغيره ولا ضار ، فباستيلاء حب الدنيا عليه لم يكن للآخرة وما أعده الله فيها للمتقين من الرضوان موضع من نفسه يرجوه ويدعوا الله فيه ، كما أنه لا يخالف ما توعد الله به المجرمين فيها فيلجأ إليه تعالى بأن يقيه شره .فحرمان هذا الفريق من خلاق الآخرة الباقية ، لأنه يعمل للأولى كل ما يستطيع من أسباب الحلال والحرام ، حتى أنه لا يسأل ربه إلا المزيد من حظوظها وشهواتها ، وقد ينالها كثير من الناس بدون هم كبير في العمل لها ، ولا يعمل للآخرة وقد اشترط لسعادتها خير العمل ، فقال تعالى:{ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مححورا* ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} ( الإسراء:19 ) الآيات .ويا لله ما أبلغ حذف مفعول{ آتنا} في هذا المقام فهو من دقائق الإيجاز التي تحار فيها الأفهام ، وتعجز عنها قرائح الأنام ، فإنه بدلالته على العموم يشمل كل ما يعنى به أفراد هؤلاء الناس المتفاوتي الهمم المختلفي الأهواء ، من الحظوظ والشهوات ، حسنها وقبيحها ، وخيرها وشرها ، كبيرها وخسيسها ، وما لا يليق ذكره منها .
وقد اختلف المفسرون في تعيين هذا الفريق فقيل هم الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة واستدلوا بما روي عن ابن عباس وأنس من دعاء المشركين في ذلك المقام بحظوظ الدنيا ، وقيل هم المسلمون الذين لم تمس أسرار الدين وحكمه قلوبهم ، ولم تشرق أنوار هدايته على أورواحهم ، بل اكتفوا بالتقليد في رسومه الظاهرة ، فكان همهم في الدنيا دون الآخرة ، وذكروا هنا ما روي في المرفوع من أن الله تعالى يؤيد هذا الدين بمن لا خلاق لهم .واستدلوا على صحة رأيهم بالسياق ولا شك أن هذا القسم موجود في المسلمين كما وجد في كل أمة ، ومن بلا الناس وفلاهم عرف ذلك .