{ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} أي ومنهم من يطلب خير الدنيا والآخرة جميعا ، لا حظوظ الدنيا وحدها كيفما كانت كالفريق الأول ، وقد اختلف المفسرون في تعيين الحسنة هل هي العافية أو الكفاف أو المرأة الصالحة أو الأولاد الأبرار أو المال الصالح أو العلم والمعرفة أو العبادة والطاعة .وروي بعض هذه الأقوال عن بعض السلف ، ولعل كل ذي قول يطلقها على المهم عنده ، والظاهر أن حسنة وصف لمحذوف أي حياة حسنة ، وانظر بم تكون حياة المرء حسنة فيكون سعيدا في الدنيا فمن دعا الله تعالى دعاء إجماليا فليدعه بسعادة الدنيا والآخرة والحياة الطيبة فيهما يكن مهتديا بالآية ، ومن كانت له حاجة خاصة فدعاه لها من حيث هي حسنة فهو مهتد بها ، على أنهم اختلفوا في حسنة الآخرة أيضا فقيل الجنة ، وقيل الرؤية ، واختلفوا في عذاب النار ورووا عن علي كرم الله وجهه أنه المرأة السوء .وقد علم مما تقدم في تفسير{ أجيب دعوة الداع إذا دعاني} ( البقرة:186 ) أن الطلب من الله تعالى إنما يكون باتباع سننه في الأسباب والمسببات ، والتوجه إليه تعالى واستمداد المعونة والتوفيق منه ، للهداية إلى ما يعجز العبد عنه .
وعلى هذا يتخرج تفسير الحسن لقوله تعالى:{ وقنا عذاب النار} بقوله أي احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إليها فطلب الحياة الحسنة في الدنيا يكون بالأخذ بأسبابها المجربة في الكسب والنظام في المعيشة ، وحسن معاشرة الناس بآداب الشريعة والعرف ، وقصد الخير في الأعمال كلها ، وتوقي الشرور كلها ، وطلب الوقاية من النار يكون بترك المعاصي واجتناب الرذائل والشهوات المحرمة ، مع القيام بالفرائض المحتمةهذا هو الطلب بلسان القلب والعمل ، واما الطلب بلسان المقال فهو يصدق بما يذكر القلب بأن هذه الأسباب من الله ، فالسعي لها مع الإيمان هو عين الطلب من فيضه وإحسانه ، مضت سنته بأن يعطي بها فضلا منه ورحمة ، لا بخوارق العادات التي لا يعلم محلها وحكمتها غيره ، وأنه لا يرجع إلى سواه في الهداية إلى ما خفي ، والمعونة على ما عسر .
ولم يذكر في التقسيم من لا يطلب إلا حسنة الآخرة ، لأن التقسيم لبيان ما عليه الناس في الواقع ونفس الأمر بحسب داعي الجلبة وتأثير التربية وهدي الدين ، ولا يكاد يوجد في البشر من لا تتوجه نفسه إلى حسن الحال في الدنيا مهما يكن غاليا في العمل للآخرة ، لأن الإحساس بالجوع والبرد والتعب يحمله كرها على التماس تخفيف ألم ذلك الإحساس ، والشرع يكلفه ذلك بما يقدر عليه من أسبابه ، وقد جعل عليه حقوقا لبدنه ولأهله وولده ولرحمه ولزائريه وإخوانه وأمته لا تصح عبوديته إلا بدعاء الله تعالى فيها .
وفي الآية إشعار بأن هذا الغلو مذموم خارج من سنن الفطرة وصراط الدين معا ، وما نهى الله أهل الكتاب عن الغلو في الدين وذمهم على التشدد فيه إلا عبرة لنا ، وقد نهانا عنه نبينا صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث أنس عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له ( هل كنت تدعو الله بشيء ؟ ) قال نعم كنت أقول؛ اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت:ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ودعا له فشفاه الله تعالى{[132]} .
وأبعد من هذا في الغلو أن بعض الصوفية سمع قارئا يتلو قوله تعالى:{ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} ( آل عمران:153 ) فصاح أواه فأين من يريد الله ؟ وهو قول حسن الظاهر قبيح الباطن ، فالآية خطاب لخيار الصحابة وهو وشيخه من الصوفية لم يبلغوا مد أحدهم ولا نصيفه ، فإرادة الدنيا والآخرة ، بالحق إرادة لمرضاة الله وعمل بسنته وشرعه والمراد بالدنيا فيها الغنيمة في الحرب ، وبالآخرة الشهادة في سبيل الله ، فهل يظن بجهله أن من شهد في القتال على الغنيمة أنهم لا يريدون الله ؟ وقد ورد في الصحيح أن الآية كانت أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فهل يدعي ذلك الصوفي وأمثاله من الغلاة أنهم أشد حبا منه لله وطلبا له عز وجل ؟
( أقول ):كلا إنما هي فلسفة خيالية من خيالات وحدة الوجود البرهمية الهندية ، قد شغل بها أفراد عن فطرة الله وشرعه معا فجعلوها أعلى مراتب العبودية ، وتأولوا لها بعض آيات الكتاب العزيز كقوله تعالى:{ يردون وجهه} ( الأنعام:52 ) وما إرادة وجهه تعالى إلا الإخلاص له في كل عمل مشروع من مصالح الدين والدنيا وتحري هداية دينه فيه ، لا ما تخيلوه من أن إرادة وجهه تعالى هو الوصول إلى ذاته بعد التجرد من كل نعمة في الدنيا والآخرة جميعا ، فإن الاتصال بتلك الذات العلية القدسية التي لا تدركها العقول ولا تدنو من كنهها الأفكار ولا الأوهام ، مما لم يتعلق به تكليف ، ولم يرد به شرع ، بل إدارك كنه الذوات هي معرفة كل شيء به ومعرفته في كل شيء وبكل شيء ، ودعاؤه بكل اسم من أسمائه بما يناسب تعلقه بشؤون عباده ، وبهذا فضل جمهور أهل السنة خيار البشر على الملائكة الذين يعبد كل منهم ربه عبادة خاصة ، والمؤمن الكامل من يعرف حق ربه على عباده وما شرعه من حقوق بعضهم على بعض ، والقيام في كل ذلك بذكره وشكره وحبه والتوكل عليه والإخلاص له ، وأعلى مراتب معرفته في الآخرة هو مقام الرؤية بتجليه الأعلى في جنات عدن ، والاشتغال بذكر الجزاء عن العمل الموصل إليه جهل لا علم ولا معرفة .