ثم قال تعالى بيانا لمن يسأل عن حظ هؤلاء{ أولئك لهم نصيب مما كسبوا} الإشارة بأولئك إلى الذين يطلبون سعادة الدارين ، والحسنة في المنزلتين ، لأن حكم الفريق الذي يطلب الدنيا وحدها قد علم من قوله تعالى:{ وما له في الآخرة من خلاق} فإن العطف يشعر بمحذوف كأنه قال هذا الفريق له حظه من الدنيا وما له في الآخرة من حظ سواه ، ومجموع الكلام في الفريقين بمعنى قوله تعالى:{ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} ( الشورى:20 ) وقد بينت الآية صريحا أنهم يعطون ما دعوا الله تعالى فيه بكسبهم ، وهذا نص فيما تقدم من معنى الدعاء وأنه لا بد أن يكون طلب اللسان مطابقا لما في النفس من الشعور بالحاجة إلى الله تعالى بعد الأخذ بالأسباب والسعي في الطرق التي مضت بها سنة الله تعالى ، ولهذا قال{ مما كسبوا} ولم يقل لهم ما طلبواوالمعنى أنهم لما كانوا يطلبون الدنيا بأسبابها ويسعون للآخرة سعيها ، كان لهم حظ من كسبهم هذا في الدارين على قدره .
{ والله سريع الحساب} يوفي كل كاسب أجره عقب عمله بحسبه لأن سنته مضت بأن تكون الرغائب آثار الأعمال ، فهو يوفي كل عامل عمله بلا إبطاء ، وكما يكون الجزاء سريعا في الدنيا كذلك يكون في الآخرة ، فإن أثر الأعمال الصالحة يظهر للمرء عقب الموت وهو أول قدم يضعها في باب عالم الآخرة .وهذا أحسن بيان لما قالوه في تفسير{ سريع الحساب} من أنه إجابة الدعاء .والأكثرون على أن المراد حساب الآخرة ، واختلفوا في كيفية ذلك على أقوال أقربها إلى التصور أن سرعة الحساب عبارة عن اطلاع كل عامل على علمه أو إعلامه بما له مما كسب ، وما عليه مما اكتسب ، وذلك يتم في لحظة ، وقد ورد أن الله تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا ، وورد في قدر فواق الناقة ، وورد بمقدار لمحة البصر .
( أقول ) هذا ما كنت كتبته في تفسير الآية بالمعنى الذي قرره شيخنا ( رح ) من كون النصيب فيها شاملا لجزاء هذا الفريق في الدنيا والآخرة معا وطبع في حياته ، ثم فكرت في التعبير عنه بمن التبعيضية ( مما كسبوا ) والحال أن جزاء الآخرة يضاعف ، وأن الدنيا هي التي لا ينال الناس فيها كل ما يطلبون بكسبهم ولا دعائهم وفاقا لاستشهادي عليه آنفا بآيات سورة الإسراء{ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} ( الإسراء:18 ) فرجح عندي أن المراد هنا بالنصيب من الكسب ما يكون في الدنيا وأشار إلى جزاء الآخرة بسرعة الحساب الذي يكون الجزاء في أثره وهو ما حكيته عن الجمهور .