[ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار] هذا هو الفريق الثاني ، ليس همه الدنيا وليست مطالبه مقصورة عليها ، بل مطالبه ثلاثة:
أولها:حسنة في الدنيا ، أي حال حسنة في الدنيا ، فلا يذل للئيم ، ولا يرام بضيم ، ولا تكرثه كوارث الحياة ، ولا يبتلى في دينه ومروءته وخلقه ، ولا يسلط عليه حاكم ظالم أو متسلط غاشم ، وهكذا يعيش آمنا في سربه عنده قوت يومه ،ينفع الناس ويصل رحمه ، فكل ما يؤدي إلى الاطمئنان والبعد عن الحرام فهو حال حسنة في الدنيا .
و المطلب الثاني:حسنة في الآخرة ، أي حال حسنة في الآخرة ، بأن يكون من المرضي عنهم من رب العالمين ، فلا تلحقه آثام من آثام الدنيا . والمطالبة بالحال الحسنة في الآخرة هي مطالبة بأن يجنبه السيئات في الدنيا ، ويوفقه للطاعات فيها ، لأن حال الآخرة مبنية على حال الدنيا ، فإن كان قائما بالطاعات نافعا للناس فيها غير ظالم ولا متكبر ، لا يعيث في الأرض فسادا ، فحاله في الآخرة حسنة ، وإن انهوى في الشر وركبته الآثام في الدنيا ، وأحاطت به خطيئته ، فليست حاله في الآخرة حسنة .
و المطلب الثالث:أن يقيه عذاب النار ، وقد ذكر ذلك مطلبا قائما بذاته مع أنه داخل في حسنة الآخرة ، إذ إن حسنة الآخرة تقتضي ألا يكون في النار ، لأن المؤمن الخاشع الخاضع يغلب الخوف على الرجاء ، فكلما ازداد قربا من الله ازدادت خشيته ورهبته ، وكلما أكثر من الطاعات استصغر ما صنع في جانب ما أنعم عليه الكبير المتعال ، ولذلك كان الصديقون والنبيون أخوف لله من غيرهم لأنهم أقرب إليه ، وأدنىمنه ، ومراتب الناس في الخوف من العقاب هي كمراتبهم في الطاعات لا كدركاتهم في المعاصي ، لأن أهل المعاصي في لهو شاغل ، أما أهل الطاعات فهم في ذكر لله دائم ، وقد وصف الله الطائعين بقوله:[ الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون 2]( الأنفال ) .
و لقد وصف القاسم بن عبد الرحمان ذلك القسم الذي يطلب حسنة الدنيا والآخرة ،فقال:من أعطي قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وجسدا صابرا ، فقد أوتي في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، ووقي عذاب النار .
و لقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"{[238]} .
و لم يذكر قسم ثالث وهو الذي يطلب الآخرة فقط ، ولا يطلب الدنيا ، لأن الإسلام لا يرضى أن ينسى المسلم حظه من الدنيا ، ولأن من يطلب الآخرة يطلب الأعمال الحسنة في الدنيا ، لأنها قنطرة الآخرة ، ولأن الإسلام لا يقر الانقطاع عن طيبات الدنيا لحظ الآخرة لأنه لا يرضى بتعذيب الجسد لتهذيب الروح كما يزعم الذين يسلكون ذلك المسلك .
و لقد روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين صار مثل الفرخ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه ؟"قال:نعم كنت أقول:اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله! !لا تطيقه ، أفلا قلت:ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار "{[239]} .