[ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا] المناسك:جمع منسك وهو العبادة ، أي إذا أديتم عبادتكم التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم على وجهها ،و كما شرعها ربكم ، فاملئوا قلوبكم بثمرتها ، وهي ذكر الله دائما وعمران القلوب به ، فهو غاية العبادة ومرماها ، وذكر الله دائما في كل الأعمال والأقوال هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ، فإن المرء إذا عمر قلبه بذكر ربه آناء الليل وأطراف النهارما أقدم على معصية ، وما آذى مخلوقا ، وما أفسد مجتمعا ، وما ظلم وما بغى ، ولذلك قال سبحانه:[ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر . . .45]( العنكبوت ) .
و لذلك طالب سبحانه الحجاج بأن يذكروا الله كذكرهم آباءهم ، فإن المرء لا ينسى أباه ، وإذا كان لا ينسى أباه لأنه كان السبيل الذي وصل به إلى هذا الوجود ، فليذكر خالق أبيه وخالقه وخالق كل من في هذا الوجود .
و إن ذكر الله سبحانه يقتضي أن يغضب المؤمن لعصيان الله في الأرض ، لأن ذلك اعتداء على محارم الله ، ومن اعتدى على محارم الآباء قوتل فمن اعتدى على محارم خالق الآباء أولى أن يقاتل ويحارب ، وقد سئل ابن عباس عن قوله تعالى:[ فاذكروا الله كذكركم آباءكم] فقيل له:قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر أباه فقال ابن عباس:ليس كذلك ، ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما ، ففسر ابن عباس رضي الله عنه الآية بلازمها ونتيجتها وغايتها ، إذ إن نتيجة ذكر الله دائما الغضب عندما تنتهك محارم الله سبحانه وتعالى ، وإن الله طالب بأن نذكره كذكر آبائنا أو أشد ذكرا أي اذكروه سبحانه كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا من آباءكم ،و "أو"في معنى الإضراب والترقي ، أي أنه يطالبهم سبحانه بأن يذكروه كما يذكروا آباءهم ، ثم يترقى في معاني التقرب منه ، فيطالبهم بأن يكونوا أشد ذكرا له من آبائهم ، وكأن لطالب الهداية درجتين:أولاهما ، أن يكون ذكره لله كذكر الآباء ، فيغضب لمحارمه كما يغضب لشتم أبويه ، ثم تترقى حاله في مراتب التهذيب الروحي والنفسي ، فيكون أشد ذكرا لله فيغضب لمحارمه أكثر مما يغضب لشتم الآباء .
و في الآية فوق هذه المعاني السامية تعريض بما كان يفعله أهل الجاهلية من قيامهم بعد يوم النحر في الأسواق يتفاخرون بالأنساب والآباء ، كما تروي كتب الأدب عما كان يجري من المسابقات الشعرية في الفخر والغزل في سوق عكاظ .
و لقد استبدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المفاخرة خطبة استعرض فيها أمر الإسلام وذكر بعض أحكامه ليقتدي من بعده الأمراء فقد روى الإمام أحمد من حديث أبي نضرة قال:حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق ، فقال:"يأيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ، أبلغت ؟ قالوا:بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم "{[237]} .
[ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق] بعد أن بين سبحانه وتعالى ما يجب على الناس أن يذكروه عقب القيام بمناسك الحج ، وهو أن يذكروه هو وحده ، وينسوا أهواءهم وشهواتهم ويغضبوا لمحارم ربهم ، بين ما يقع من الناس ، فذكر أنهم طائفتان:طائفة تذكر الدنيا ، ولا يدعون الله بعد ناسك الحج إلا بما يشبع رغباتهم وأهواءهم ، ولا يذكرون الآخرة ، كأن العبادة في نظرهم ليست إلا ذريعة لطلب الشهوات أو الرغبات ، أو مصالحهم الشخصية في الدنيا ، وفريق يذكر الدنيا والآخرة ، وقد ذكر الفريق الأول بقوله:[ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا] الفاء هنا للإفصاح ، أي إذا كان ذلك أمر الله فالناس ليسوا جميعا سواء في طاعته ، فمنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا ، وقد حذف المفعول للفعل آتنا للدلالة على تعميم المطلوب ، فهم يطلبون كل ما يمكن أن يصل إليهم ، ومن طلب الدنيا لا يفرق بين هوى يرديه ، وصالح يقيمه ، ومعنى [ و ما له في الآخرة من خلاق] أي لا نصيب لهم . وخلاصة المعنى:أن هؤلاء يلجأ ون إلى ربهم لينيلهم حظهم من الدنيا ، راغبين في كل ما فيها لأنها همهم ، ولا شيء سواها في نفوسهم ، ولا غاية عندهم غيرها ، وليس لهم أي نصيب في الآخرة .