[ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس] بعد أن أشار سبحانه إلىالوقوف بعرفة والإفاضة إلى المزدلفة ، وذكر الله فيهما ، بين طريق الإفاضة فقال هذه الجملة الكريمة ، واستعمل "ثم"لبيان الترتيب والتراخي البياني أو المعنوي ، ففي الأول ذكر مطلق الإفاضة ، ثم ذكر طريق الإفاضة وكيف تكون ، كمن يقول أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، لبيان التفاوت بين مطلق الإحسان وتخصيص الكريم بالإحسان ، وكذلك هنا كان التعبير بثم لبيان التفاوت في الفضل بين مطلق الإفاضة ، والإفاضة مع الناس وفي جمعهم الزاخر المتدافع ليشعر كل مسلم بأنه في نزلة واحدة مع غيره من المؤمنين ، فيستوي السوقة والأمير ، والكبير والصغير ، والغني والفقير ، والحاكم والمحكوم ، فتصقل هذه الزحمة القدسية قلوب المؤمنين ، وتشعرهم بالمساواة أجمعين .
فهذه الجملة عامة في خطابها تشمل الحجاج أجمعين إلى يوم الدين ، فهم جميعا مطالبون بأن يفيضوا مع الناس ، ومن حيث يسيرون ، لا يختص أحد بطريق ، ولا يمنع لأحد طريق ولا يكون لفريق مسلك ، ولا يمنع الناس حتى يمر بعض الناس ، بل الجميع في المرتفع والمهبط ، والسير والموقف سواء ، لأنهم في ساحات رب العالمين الذي يعطي من يشاء ويمنع من يشاء .
و لقد قال بعض مفسري السلف:إن الخطاب في هذه الجملة خاص بقريش وحلفائها ، لأنهم في الجاهلية كانوا يسمون أنفسهم الحمس يقفون بالمزدلفة ، ولا يقفون مع سائر الناس بعرفة ، فأمرهم الله سبحانه بأن يقفوا كما يقف كل الناس ، ويفيضوا كما يفيض كل الناس .
و عندي أن الخطاب عام ، ويدخل فيه النهي عن هذه الحال التي كانت من قريش ، ومرمى الآية في معناها العام أو الخاص هو التسوية المطلقة بين الناس في تلك البقعة المباركة وفي ذلك النسك العظيم .
[ و استغفروا الله إن الله غفور رحيم] ختم سبحانه الآية الكريمة التي تشتمل على آخر منسك من مناسك الحج ، إذ يكون بعده التحلل ، وإن بقيت بعض العبادات الأخرى ، بالأمر بالاستغفار وهو طلب المغفرة من الله القدير ، وطلب المغفرة فور العبادة أمر توحي به النفس المؤمنة البرة ، وذلك لأن العبادة تطهر قلب العابد ، وتزيل أدرانه ، فتجعله يحس بما كان منه قبلها ، فيضرع إلى المولى أن يستره بسترته ، ويصفح عنه بعفوه ، ولأن المؤمن الخالص الإيمان كلما أرهفت مشاعره وقويت روحه ، أحس بأنه مقصر أمام النعم ، لا يصل إلى الوفاء بحقه ، فيلجأ إلى الاستغفار عن التقصير ، ولأن الاستغفار نفسه عبادة ، وهو أبر الطاعات ، ولذا يقول بعض الصوفية:رب معصية أورثت ذلا وانكسارا ، خير من طاعة أورثت دلا واستكبارا .
و الاستغفار ثمرة الحج ، لأنه التطهير النهائي للنفس ، فيعود الحاج الذي لم يفسق ولم يرفث كيوم ولدته أمه ، ولقد ذيل سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله:[ إن الله غفور رحيم] أي أن الله سبحانه وتعالى كثير المغفرة ، وأن الغفران وصف له سبحانه في معاملته لعباده ، والسبب في ذلك أنه رحيم بالناس ، ومن الرحمة بهم أن يغفر للمذنب ، ليعطيه فرصة النجاة من ماضيه واطراح مآثمه ، واستقبال حياة جديدة نزهة ينعم فيها بالطهر وينتفع منه الناس ، وذلك رحمة به وبالناس ، فالمجتمع يستفيد من كثرة التائبين ، ولا يستفيد من كثرة اليائسين من رحمة الله ، إذ يستمرون في غيهم يأسا من غفران ربهم ، ولذا قال سبحانه [ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم53] ( الزمر ) .