( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ( البقرة:281 )
التفسير:
قوله تعالى:{واتقوا يوماً} أي اتقوا عذاب يوم ؛أي احذروه ؛والمراد به يوم القيامة ؛لقوله تعالى:{ترجعون فيه إلى الله}؛وعلى هذا تكون{يوماً} منصوبة على المفعولية ؛لأن الفعل وقع عليها - لا فيها .
قوله تعالى:{ترجعون} صفة ل{يوماً}؛لأنه نكرة ؛والجمل بعد النكرات صفات ؛وهي بضم التاء ،وفتح الجيم على أنه مبني لما لم يسم فاعله ؛وفي قراءة بفتح التاء ،وكسر الجيم على أنه مبني للفاعل .
قوله تعالى:{ثم توفى كل نفس} أي تعطى ؛والتوفية بمعنى الاستيفاء ؛وهو أخذ الحق ممن هو عليه ؛ف{توفى كل نفس} أي تعطى ثوابها ،وأجرها المكتوب لها - إن كان عملها صالحاً ؛أو تعطى العقاب على عملها - إن كان عملها سيئاً .
قوله تعالى:{ما كسبت} أي ما حصلت عليه من ثواب الحسنات ،وعقوبة السيئات .
قوله تعالى:{وهم لا يظلمون} جملة استئنافية ؛ويحتمل أن تكون جملة حالية ؛لكن الأول أظهر ؛والمعنى: لا ينقصون شيئاً من ثواب الحسنات ، ولا يزاد عليهم شيئاً من عقوبة السيئات .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب اتقاء هذا اليوم الذي هو يوم القيامة ؛لقوله تعالى:{واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله}؛واتقاؤه يكون بفعل أوامر الله ،واجتناب نواهيه .
2 - ومنها: أن التقوى قد تضاف لغير الله - لكن إذا لم تكن على وجه العبادة ؛فيقال: اتق فلاناً ،أو: اتق كذا ؛وهذا في القرآن والسنة كثير ؛قال الله سبحانه وتعالى:{واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [ آل عمران: 130 ،131]؛لكن فرق بين التقويين ؛التقوى الأولى تقوى عبادة ،وتذلل ،وخضوع ؛والثانية تقوى وقاية فقط: يأخذ ما يتقي به عذاب هذا اليوم ،أو عذاب النار ؛وفي السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتق دعوة المظلوم »{[535]} ؛فأضاف «التقوى » هنا إلى «دعوة المظلوم »؛واشتهر بين الناس: اتق شر من أحسنت إليه ؛لكن هذه التقوى المضافة إلى المخلوق ليست تقوى العبادة الخاصة بالله عز وجل ؛بل هي بمعنى الحذر .
3 - ومن فوائد الآية: إثبات البعث ؛لقوله تعالى:{ترجعون فيه إلى الله} .
4 - ومنها: أن مرجع الخلائق كلها إلى الله حكماً ،وتقديراً ،وجزاءً ؛فالمرجع كله إلى الله سبحانه وتعالى ،كما قال تعالى:{وأن إلى ربك المنتهى} [ النجم: 42] ،وقال تعالى:{إن إلى ربك الرجعى} [ العلق: 8] ،أي في كل شيء .
5 - ومنها: إثبات قدرة الله عز وجل ؛وذلك بالبعث ؛فإن الله سبحانه وتعالى يبعث الخلائق بعد أن كانوا رميماً ،وتراباً .
6 - ومنها: الرد على الجبرية ؛لقوله تعالى:{واتقوا يوماً}؛لأن توجيه الأمر إلى العبد إذا كان مجبراً من تكليف ما لا يطاق .
7 - ومنها: أن الإنسان لا يوفى يوم القيامة إلا عمله ؛لقوله تعالى:{ثم توفى كل نفس ما كسبت}؛واستدل بعض العلماء على أنه لا يجوز إهداء القرب من الإنسان إلى غيره ؛أي أنك لو عملت عملاً صالحاً لشخص معين ؛فإن ذلك لا ينفعه ،ولا يستفيد منه ؛لأن الله سبحانه وتعالى قال:{توفى كل نفس ما كسبت}؛لا ما كسب غيرها ؛فما كسبه غيره فهو له ؛واستثني من ذلك ما دلت السنة على الانتفاع به من الغير كالصوم ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه »{[536]} ؛والحج ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي استفتته أن تحج عن أبيها وكان شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة قالت: أفأحج عنه قال: «نعم »{[537]} ؛وكذلك المرأة التي استفتته أن تحج عن أمها التي نذرت أن تحج ،ولم تحج حتى ماتت قالت: أفأحج عنها قال صلى الله عليه وسلم: «نعم »{[538]} ؛وكذلك الصدقة ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن استفتاه أن يتصدق عن أمه: «نعم »{[539]} ؛وأذن لسعد بن عبادة أن يتصدق بمخرافه عن أمه{[540]} ؛وأما الدعاء للغير إذا كان المدعو له مسلماً فإنه ينتفع به بالنص ،والإجماع ؛أما النص ففي الكتاب ،والسنة ؛أما الكتاب ففي قوله تعالى:{والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} [ الحشر: 10]؛وأما السنة ففي قوله ( ص ): «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه »{[541]} ،وكان ( ص ) إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه ،وقال: «استغفروا لأخيكم ،واسألوا له التثبيت ؛فإنه الآن يُسأل »{[542]} ؛وأما الإجماع: فإن المسلمين كلهم يصلون على الأموات ،ويقولون في الصلاة: «اللهم اغفر له ،وارحمه » ؛فهم مجمعون على أنه ينتفع بذلك .
والخلاف في انتفاع الميت بالعمل الصالح من غيره فيما عدا ما جاءت به السنة معروف ؛وقد ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أن أيّ قربة فعلها ،وجعل ثوابها لميت مسلم قريب ،أو بعيد نفعه ذلك ؛ومع هذا فالدعاء للميت أفضل من إهداء القرب إليه ؛لأنه الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية ،أو علم ينتفع به ،أو ولد صالح يدعو له »{[543]} ؛ولم يذكر العمل مع أن الحديث في سياق العمل .
وأما ما استدل به المانعون من إهداء القرب من مثل قوله تعالى:{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [ النجم: 3] فإنه لا يدل على المنع ؛بل على أن سعي الإنسان ثابت له ؛وليس له من سعي غيره شيء إلا أن يجعل ذلك له ؛ونظير هذا أن تقول: «ليس لك إلا مالك » ،فإنه لا يمنع أن يقبل ما تبرع به غيره من المال .
وأما الاقتصار على ما ورد فيقال: إن ما وردت قضايا أعيان ؛لو كانت أقوالاً من الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا: نعم ،نتقيد بها ؛لكنها قضايا أعيان: جاءوا يسألون قالوا: فعلت كذا ،قال: نعم ،يجزئ ؛وهذا مما يدل على أن العمل الصالح من الغير يصل إلى من أُهدي له ؛لأننا لا ندري لو جاء رجل وقال: يا رسول الله ،صليت ركعتين لأمي ،أو لأبي ،أو لأخي أفيجزئ ذلك عنه ،أو يصل إليه ثوابه لا ندري ماذا يكون الجواب ؛ونتوقع أن يكون الجواب: «نعم » ؛أما لو كانت هذه أقوال بأن قال: «من تصدق لأمه أو لأبيه فإنه ينفعه » ،أو ما أشبه ذلك لقلنا: إن هذا قول ،ونقتصر عليه .
8 - ومن فوائد الآية: أن الصغير يكتب له الثواب ؛وذلك لعموم قوله تعالى:{ثم توفى كل نفس} .
فإن قال قائل: وهل يعاقب على السيئات .
فالجواب: «لا » ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة ...» ،وذكر منها: «الصغير حتى يحتلم »{[544]} ؛ولأنه ليس له قصد تام لعدم رشده ؛فيشبه البالغ إذا أخطأ ،أو نسي .