)وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة:54 )
التفسير:
ثم ذكر الله تعالى نعمة أخرى أيضاً فقال:{وإذ قال موسى لقومه} أي واذكروا إذ قال موسى لقومه ؛{يا قوم} أي يا أصحابي ؛وناداهم بوصف القومية تحبباً ،وتودداً ،وإظهاراً بأنه ناصح لهم ؛لأن الإنسان ينصح لقومه بمقتضى العادة ..
قوله تعالى:{إنكم ظلمتم أنفسكم}: أكد الجملة لبيان حقيقة ما هم عليه ؛و{ظلمتم} بمعنى نقصتم أنفسكم حقها ؛لأن"الظلم "في الأصل بمعنى النقص ،كما قال الله تعالى:{كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} [ الكهف: 33] أي لم تنقص ..
قوله تعالى:{باتخاذكم العجل}: الباء هنا للسببية .أي بسبب اتخاذكم العجل ؛و"اتخاذ "مصدر فِعْله: اتخذ ؛وهو مضاف إلى فاعله: الكاف ؛و{العجل} مفعول أول ؛والمفعول الثاني محذوف تقديره: إلهاً ؛والمعنى: ظلمتم أنفسكم بسبب اتخاذكم العجل إلهاً تعبدونه من دون الله ؛وهذا العجل سبق أنه عجل من ذهب ،وأن الذي فتن الناس به رجل يقال له: السامري ..
قوله تعالى:{فتوبوا إلى بارئكم} أي ارجعوا إليه من معصيته إلى طاعته ؛و"البارئ ": الخالق المعتني بخلقه ؛فكأنه يقول: كيف تتخذون العجل إلهاً وتَدَعون خالقكم الذي يعتني بكم ؛وهذا كقول إلياس عليه السلام لقومه:{أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين} [ الصافات: 125 ،126] ..
قوله تعالى:{فاقتلوا أنفسكم}: الفاء هنا تفسيرية ؛لأن قوله تعالى:{فاقتلوا} تفسير للمجمل في قوله تعالى:{توبوا}؛وعلى هذا فالفاء للتفسير ؛أي: فتوبوا بهذا الفعل .وهو أن تقتلوا أنفسكم ؛أي ليقتل بعضكم بعضاً ؛وليس المعنى أن كل رجل يقتل نفسه .بالإجماع ؛فلم يقل أحد من المفسرين: إن معنى قوله تعالى:{فاقتلوا أنفسكم} أي يقتل كل رجل نفسه ؛وإنما المعنى: ليقتل بعضكم بعضاً: يقتل الإنسان ولده ،أو والده ،أو أخاه ؛المهم أنكم تستعدون ،وتتخذون سلاحاً .خناجر ،وسكاكين ،وسيوفاً .وكل واحد منكم يهجم على الآخر ،ويقتله ..
واختلف المفسرون: هل هذا القتل وقع في ظلمة ،أو وقع جهاراً بدون ظلمة ؟فقيل: إنهم لما أمروا بذلك قالوا: لا نستطيع أن يقتل بعضنا بعضاً وهو ينظر إليه: ينظر الإنسان إلى ابنه ،فيقتله ،وإلى أبيه ،وإلى صديقه !هذا شيء لا يطاق ؛فألقى الله تعالى عليهم ظلمة ،وصار يقتل بعضهم بعضاً ،ولا يدري مَن قتل ..
وقيل: بل إنهم قتلوا أنفسهم جهراً بدون ظلمة ،وأن هذا أبلغ في الدلالة على صدق توبتهم ،وأنه لما رأى موسىصلى الله عليه وسلم أنهم سينتهون .لأنه إذا قتل بعضهم بعضاً لن يبقى إلا واحد .ابتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يرفع عنهم الإصر ؛فأمروا بالكف ؛وقيل: بل سقطت أسلحتهم من أيديهم .والله أعلم ..
وظاهر القرآن أنه لم تكن هناك ظلمة ،وأنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً عِياناً ،وهذا أبلغ في الدلالة على صدق توبتهم ،ورجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى ..
وذهب بعضهم إلى أن المراد: أن يقتل البريء منكم المجرم .يعني الذين دعوا إلى عبادة العجل ،وعكفوا عليه يُقتَلون ؛والذين تبرؤوا منه يَقتلون .والله أعلم ..
ولكن الظاهر الأول ؛لأن قتل البريء للمجرم ليس فيه دلالة على صدق التوبة من المجرمين ؛لأن الإنسان قد يُقتل وهو مصرّ على الذنب ؛ولا يدل ذلك على توبته ..
قوله تعالى:{ذلكم} المشار إليه قتل أنفسهم ؛{خير لكم عند بارئكم} أي من عدم التوبة ؛أو من عدم القتل ؛وهذا من التفضيل بما ليس في الطرف الآخر منه شيء ؛والتفضيل بما ليس في الطرف الآخر منه شيء وارد في اللغة العربية ؛لكن بعضهم يقول: إنه لا يكون بمعنى التفضيل ؛بل المراد به وجود الخير في هذا الأمر بدون وجود مفضَّل عليه ..
قوله تعالى:{إنه هو التواب الرحيم}: هذه الجملة تعليل لما قبلها ؛و{هو} ضمير فصل ؛وسبق بيان فوائده ؛و{التواب} أي كثير التوبة: لكثرة توبته على العبد الواحد ،وكثرة توبته على التائبين الذين لا يحصيهم إلا الله ،فهو يتوب في المرات المتعددة على عبده ،ويتوب على الأشخاص الكثيرين الذين تكثر توبتهم ؛
و{الرحيم} أي ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء ..
الفوائد:
. 1من فوائد الآية: أنه ينبغي للداعي إلى الله أن يستعمل الأسلوب الذي يجذب إليه الناس ،ويعطفهم عليه ؛لقوله تعالى حكاية عن موسى:{يا قوم}؛فإن هذا لا شك فيه من التودد ،والتلطف ،والتحبب ما هو ظاهر ..
. 2ومنها: أن اتخاذ الأصنام مع الله ظلم ؛لقوله:{إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} ..
. 3ومنها: أن المعاصي ظلم للنفوس ؛وجه ذلك: أن النفس أمانة عندك ؛فيجب عليك أن ترعاها بأحسن رعاية ،وأن تجنبها سوء الرعاية ؛ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص:"إن لنفسك عليك حقاً{[96]} "..
. 4ومنها: أنه ينبغي التعبير بما يناسب المقام ؛لقوله:{فتوبوا إلى بارئكم}؛لأن ذكر"البارئ "هنا كإقامة الحجة عليهم في أن العجل لا يكون إلهاً ؛فإن الذي يستحق أن يكون إلهاً هو البارئ .أي الخالق سبحانه وتعالى ..
. 5ومنها: وجوب التوبة ؛لقوله: ( فتوبوا إلى بارئكم )
. 6ومنها: أن التوبة على الفور ؛لقوله:{فتوبوا}؛لأن الفاء للترتيب ،والتعقيب ..
. 7ومنها: إثبات الأسباب ،وتأثيرها في مسبباتها ؛لقوله{باتخاذكم}: فإن الباء هنا للسببية ..
. 8ومنها: أنه ينبغي للداعي إلى الله أن يبين الأسباب فيما يحكم به ؛لقوله: ( إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل )
. 9ومنها: سفاهة بني إسرائيل ،حيث عبدوا ما صنعوا وهم يعلمون أنه لا يرجع إليهم قولاً ،ولا يملك لهم ضراً ،ولا نفعاً ..
. 10ومنها: ما وضع الله تعالى على بني إسرائيل من الأغلال ،والآصار ،حيث كانت توبتهم من عبادة العجل أن يقتل بعضهم بعضاً ؛لقوله:{فاقتلوا أنفسكم} ..
. 11ومنها: أن الأمة كنفس واحدة ؛وذلك لقوله:{فاقتلوا أنفسكم}؛لأنهم ما أُمروا أن يقتل كل واحد منهم نفسه ؛بل يقتل بعضهم بعضاً ؛ونظير ذلك قوله تعالى:{ولا تلمزوا أنفسكم} [ الحجرات: 11] أي لا يلمز بعضكم بعضاً ؛وعبر عن ذلك ب"النفس "؛لأن الأمة شيء واحد ؛فمن لمز أخاه فكمن لمز نفسه
. 12 ومنها: تفاضل الأعمال ؛لقوله: ( ذلكم خير لكم عند بارئكم )
. 13ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يتوب على التائبين مهما عظم ذنبهم ؛لقوله تعالى:{فتاب عليكم} ..
. 14ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله .وهما{التواب} ،و{الرحيم}؛وإثبات ما تضمناه من صفة .وهي: التوبة ،والرحمة ؛وإثبات ما تضمناه من صفة باقترانهما .لا تكون عند انفراد أحدهما ؛لأنه لما اقترنا حصل من اجتماعهما صفة ثالثة .وهي: الجمع بين التوبة التي بها زوال المكروه ،والرحمة التي بها حصول المطلوب ..
. 15ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يتعرض لما يقتضيه هذان الاسمان من أسماء الله ؛فيتعرض لتوبة الله ،ورحمته ؛فيتوب إلى ربه سبحانه وتعالى ،ويرجو الرحمة ؛وهذا هو أحد المعاني التي قال عنها رسول اللهصلى الله عليه وسلم:"من أحصاها ".أي أسماء الله التسعة والتسعين . "دخل الجنة "{[97]}؛فإن من إحصائها أن يتعبد الإنسان بمقتضاها ..