وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ( 54 )
ذكرهم سبحانه وتعالى بعبادتهم في هذا النص الكريم ، وهو{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} وإذ هنا دالة على الوقت الماضي ، والمعنى واذكروا ذلك الوقت ، يأمر الحاضرين والماضين لأنهم أمة واحدة في ضلال الفكر ، والكفر بالنعمة ، اذكروا ذلك العمل الفاجر ، وما جرى فيه من نسيان للحق والإيمان ، واذكروا كيف كان ضلالكم باستهواء قوم فرعون ، واذكروا الوقت الذي ناداكم فيه على أنكم قومه ، وأنكم نبذتم الحق ، واتبعتم الباطل ، واذكروا وقت أن قال موسى لكم{ يا قوم} لأنهم قومه الذين ناصرهم وأيدهم ، وأحبهم ولم يتركهم للظالمين ، فالنداء بقوله{ يا قوم} إشارة إلى ما يربطه بهم من مودة ومناصرة وتأييد ، وإعزاز ، وتنزيه لهم عن الباطل ، فالقريب نداؤه محبوب ومجاب ، ولقد من الله تعالى على العرب أن بعث فيهم رسولا منهم ، فقال تعالى:{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ( 128 )} [ التوبة] ناداهم موسى:{ يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} ، وهذا عتب رقيق لإثم قوي ، ومعنى اتخاذ العجل أنهم عبدوه ، وعبر سبحانه وتعالى عن عبادة العجل بأنهم اتخذوه تنزها عن أن يقول أنهم عبدوه ، لأن ما كان منهم وهم باطل لا يسمى عبادة في الحق ، والقول الطيب ، ولأنهم لم يعبدوه فقط ، بل صنع بأيديهم ، أو بأيدي بعضهم ، وهو ما لا ينفع ولا يضر ، ولا يسمع ولا يبصر فهذا كله يدل عليه كلمة اتخذوه .
ولقد أكد موسى نبي الله تعالى عليه السلام أنهم إذ اتخذوا العجل ظلموا أنفسهم ، باتخاذهم العجل ، أكد ذلك ب"إن"الدالة على التوكيد ، وظلمهم لأنفسهم بأن أضلوها عن الحق ، ونوره ساطع بينهم إذ قد قامت لديهم البراهين على قدرة الله تعالى في ضرب البحر بعصى موسى ، وانشقاقه ، وفي نجاتهم من الذل ، وظلموا أنفسهم بأن أعادوا إليها عهد الذل والضلال باتخاذهم العجل ، كما كان يفعل الذين أذلوها ، وظلموا أنفسهم بكفرهم بالله تعالى ، وضلوا ضلالا بعيدا .
هذه خطيئة ارتكبوها ، ولا يكفرها إلا توبة نصوح يقومون بها ، وقد بين لهم موسى الطريق للتوبة النصوح أو حقيقة التوبة النصوح ، فقال تعالى:{ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} الفاء في قوله تعالى:{ فتوبوا} هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر ، أي إذا كنتم قد ضللتم هذا الضلال وظلمتم أنفسكم ذلك الظلم فتوبوا إلى بارئكم أي فارجعوا إلى الله تعالى الذي خلقكم على غير مثال سبق ، ومعنى "برأ"أبدع وأنشأ وجودكم ، والتوبة رجوع إلى الحق ، والتعبير ببارئكم يؤكد معنى ظلمهم لأنفسهم ، لأنهم تركوا من خلقهم إلى ما خلقوه بأيديهم ، وصنعوه تحت نظرهم ، ولا يضرهم ، ولا ينفعهم .
والطريق الذي بينه موسى هو قوله:{ فاقتلوا أنفسكم} أي فابخعوها واجعلوها مطية ذلولا للعقل والإرادة ، واقطعوا شهواتها ، والتعبير عن ذلك بقتل النفس ، لأن النفس الفاجرة الضالة إذا فطمت عن الشهوات كأنها قتلت ، وحلت محلها النفس الطاهرة اللوامة التي تقهر الشهوات قهرا ، والشرور دائما من الأهواء والشهوات ، وقد جاء في الأمثال عند أهل المعرفة:"من لم يعذب نفسه لم ينفعها ، ومن لم يقتلها لم يحفظها"وتعذيب النفس الذي يريده أهل المعرفة هو فطمها عن الشهوات .
وقد أخذت الكثرة من المفسرين بظاهر اللفظ وهو القتل ، ورووا في ذلك روايات عن بعض الصحابة لم يصح سندها ، وبالأولى لم يصح الكلام في نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
واستعمال القتل والبخع بالنسبة للنفوس ، وإرادة غير الظاهر كثير في كلام العرب ، في القرآن كقوله تعالى:{ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( 3 )} [ الشعراء] .
وإن هذا النص الكريم يشير إلى أن التوبة النصوح التي يقبلها الله تعالى ، ويغفر بها الذنوب توجب قهر الشهوات والأهواء وقتل منابعها في النفس .
وقد حثهم كليم الله تعالى على هذه التوبة النصوح ، فقال:{ ذلكم خير لكم} الإشارة إلى بخع النفوس عن شهواتها وسد منابع الأهواء وقتل نوازع الشيطان الذي يوسوس في الصدور ، وأشير بالبعيد لبعد ما بين التوبة ورياضة النفس على ترك الأهواء والضبط بالصبر ، وقوة الإرادة المسيطرة القاهرة الطاهرة ، وكان الخطاب بصيغة الجمع لأن الإشارة إلى عمل صدر منه .
وقد أشار النص إلى قبول التوبة النصوح التي كانت على هذه الشاكلة فقال:{ فتاب عليكم} . أي رجع سبحانه عليهم وقد طهرت نفوسهم وزكيت قلوبهم بالانخلاع عن الشهوات وقتلها ، رجع عليهم سبحانه وتعالى بالغفران . وعبر سبحانه وتعالى ب "على"للإشارة إلى علوه سبحانه وتعالى عليهم في كفرهم وتوبتهم ، وأن ذلك لرحمته بهم لا لحاجته إلى طاعتهم ، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى بقوله:{ إنه هو التواب الرحيم} . والتواب كثير قبول التوبة إذا قيل ذلك عن الله تعالى ، أو كثير التوبة إذا قيل عن العبد ، والتواب صيغة مبالغة من التائب ، والتائب تطلق على التائب من الذنب ، وتطلق على من يقبل التوبة ، وهو الله سبحانه وتعالى ، وهي هنا على هذا المعنى .
وقد اقترن وصف التواب بوصف الرحيم ؛ لأن كليهما وصف لله تعالى ، ولأن قبول التوبة من رحمة الله تعالى بعباده ، ولقد قال:{ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( 82 )} [ طه] .
وقد أكد سبحانه اتصافه بهذين الوصفين اللذين كانا من فضل الله تعالى ، ومنته ، بصيغة المبالغة ، وبالجملة الاسمية ، وبالتأكيد بإن – اللهم تب علينا وارحمنا .