خطورة التمرّد والموقف الحاسم:
[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] .
لم يترك موسى القصة من دون عقاب ،لأنَّ القضية ليست قضية طارئة بسيطة ،بل هي من القضايا التي تهدد المسيرة في مجتمعها الذي يمكن أن يتلاعب به أي إنسان منحرف بفعل بعض الأساليب الشيطانية الخادعة ،ما يجعل الجبهة مفتوحة أمام كلّ القوى المضادة في أيّ موقف من مواقف الصراع ؛فأراد أن يثبِّت الموقف بتعميق الإحساس بالذنب في نفوسهم ،باعتباره ظلماً للنفس وإساءةً لها بتحويلها من خطّ الإيمان إلى خطّ الكفر ،وتعريضها للعقوبة في الدنيا والآخرة ،وذلك هو أبشع أنواع الظلم .
وكانت الخطّةفي ما توحي به الآيةأن يدعوهم إلى التوبة ولكن بطريقةٍ جديدة مُرعبة ،وهي أن يقتلوا أنفسهم ،إمّا بأن يقتل كلّ واحد نفسه ،وإمّا بأن يستسلم بعضهم لبعض ،حسب اختلاف فهم المفسرين ؛ويروون في هذا المجال ،أنَّ موسى أمرهم بأن يقوموا صفّين ثُمَّ أن يغتسلوا ويلبسوا أكفانهم ،وجاء هارون باثني عشر ألفاً ممن لم يعبدوا العجل ومعهم الشفار المرهفة لتبدأ عملية القتل ،فلما قتلوا سبعين ألفاً تاب اللّه على الباقين وجعل قتل الماضين شهادةً لهم .
وإذا أردنا أن نأخذ بظاهر الآية ،ونحمل القتل على معناه اللغوي ،فقد يكون السبب في هذه العقوبة الصعبة أنَّ الموقف يمثّل أوَّل تمرّد للقوم على النبوّة ،في بداية تحرّكها العملي ،من أجل الانتقال من دور الدعوة والتبليغ إلى دور التنظيم والتشريع ،والاتجاه إلى بناء الفرد والمجتمع على أساس المفاهيم الدينية الجديدة التي أوحى اللّه بها إلى موسى في صيغة تشريعية متصلة لا تترك أي مجال للفراغ الفكري والعملي ،فكان لا بُدَّ من موقف يساوي حجم التمرّد ،ليكون ضربةً قوية للطبيعة المتمرّدة التي بدأت تحكم مسيرة الدِّين الجديد في مجتمعه ،وليمنع حدوث أيّ تحرّكٍ أو تصرّفٍ من هذا القبيل ،لأنَّ الموقف مرتبط بالتوبة ،فلا مجال لها إلاَّ بهذا الأسلوب الصعب ،إذ إنَّ هناك فرقاً بين خطأ ينطلق من الغفلة والجهل والاندفاع العفوي ،وخطأ ينطلق من موقع التمرّد والجحود مع وعي الموقف كلّه وما يترتب عليه ،لا سيما مع وجود هارون واحتجاجه عليهم ومواجهته الموقف بكلّ قوّة .
وقد أثار بعض المتكلّمين من المفسرين جدالاً كلامياً فلسفياً حول علاقة هذه العقوبة باللطف الإلهي ،ومدى انسجامها مع مفهومه الذي يرتبط بالمستقبل لا بالماضي .ونحن لا نريد الخوض كثيراً في هذا الموضوع ،ولا نظنّ وجود مشكلة في أساس القضية ،لأنَّ الذي أثاروه يتصل بقضية اللطف في موضوع التكليف الشرعي ،الذي يقصد من خلاله دفع المكلّف إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية ،ما يقتضي تسهيل الفعل عليه بالمستوى الذي لا يقع فيه المكلّف في مشقة وحرج غير عادي ،أمّا القضية هنا ،فإنها تتصل بالعقوبة على المعصية ،وهي حقّ اللّه يضعه أين يشاء وكيف يشاء ،ونحن لا نعقل فرقاً بين الأمر للقاتل بالاستسلام لوليّ المقتول ليجري عليه القصاص وبين هذا الأمر الموجود في هذه الآية ،كما لا نجد فرقاً بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة ،فلا استبعاد ولا مخالفة لرحمة اللّه وعدله وحكمته .
وربَّما يلوح للبعض أنَّ القتل هنا لم يرد بمعناه الحقيقي ،وهو إزهاق النفس ،بل المراد منه قتل شهواتها المحرّمة وصفاتها الذميمة وأوضاعها السيئة ،تماماً كما يعبّر بعض المرتاضين الروحيين عنه بإماتة النفس ،ويقصد بذلك إماتة كلّ شهوة أو كلّ اندفاع للشهوة المحرّمة فيها ،وقد يؤيد ذلك باعتباره أسلوباً من أساليب التوبة التي توحي بالندم على ما مضى والعزم على تصحيح المسيرة في المستقبل ،ما يفرض وجود مجالٍ بعد التوبة ،وربما يجد هذا البعض في إلحاق صفة الرحيم بالتوَّاب ما يوحي بأنَّ الموقف يتناسب مع الرحمة الإلهية في مفهوم العاصي ،مما لا ينسجم مع الأمر بالقتل .
أمّا تعليقنا على ذلك ،فهو ما ألمحنا إليه في حديث سابق ،وهو أنَّ الخطّ التفسيري الذي نسير عليه ،هو العمل بظاهر القرآن في ما توحيه طبيعة الكلمة في معناها الموضوع لها أو في القرائن المحيطة بالكلمة ،إلى أن يثبت خلاف ذلك من عقل أو نقل ،ونحن لا نجد في ما ذكره هذا البعض دليلاً على إرادة خلاف الظاهر ،لأنَّ من الممكن أن تكون التوبة بالاستسلام للقتل نظير القصاص ،ولا ضرورة لوجود مجال للحياة في المستقبل ،لأنَّ الحدود الشرعية في حالة القتل أو الزنى للمحصن أو غير ذلك تعتبر وسيلةً للتوبة وللتطهير ،أمّا موضوع الرحمة ،فقد تكون متصلة بقبوله التوبة وعدم إغلاق وسائلها بوجه الإنسان .
محاورة موسى لقومه حول سلوكهم المنحرف:
[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ] وهو يحاورهم حول السلبيات السلوكية الصادرة منهم في انحرافهم العملي ،ليثير فيهم الشعور بعقدة الذنب الذي قد يؤدّي بهم إلى القيام بعملية التصحيح والعودة إلى خطّ الاستقامة في خطّ الرسالة في الفكر والعمل .
[يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ] وورطتموها في السير بها إلى مواقع الهلاك الأخروي ،وذلك بحركة التمرّد على الخطّ التوحيدي في العبادة للّه ،[بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ]معبوداً بعد أن بيّنت لكم الأسس العقيدية التي يرتكز عليها التوحيد في الالتزامات العملية المتحرّكة في دائرة الالتزام الفكري في توحيد اللّه ،وذلك بإخلاص العبادة للّه وعدم الإشراك به في هذا المجال .[ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ] أي خالقكم الذي يملك كلّ وجودكم ،الذي هو سرّ النعمة الكبرى في إنسانيتكم ،ما يفرض عليكم العودة إليه بعد الرحلة الضالة في الابتعاد عنه ،فذلك هو الأمر الطبيعي الذي تفرضه طبيعة الأشياء التي تقتضي عودة الإنسان إلى مبدع وجوده ،ليحصل على رحمته ويمتد معه في نعمته ،وليعبّر بذلك عن شكره وانقياده له ،ولا سيما أنَّ الأمر بالتوبة ليس أمراً شخصياً من موسى ،بل هو من خلال صفة الرسالة التي تجعل أمره أمراً صادراً من اللّه .وفي التعبير بكلمة: «بارئكم » إشارة إلى عمق الموضوع ،للإيحاء بالمعنى الذي يوحي للإنسان بضرورة الانضباط في خطّ التوبة .] فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ[ كعقوبة حاسمة للواقع الشركي الذي ابتعدتم فيه كثيراً عن الخطّ التوحيدي المستقيم ،فتمرّدتُم على اللّه ونسيتم نعمه ،ورجعتم إلى الوثنية المتخلّفة التي انطلق كلّ الجهاد ضدّ فرعون من أجل تحريركم منها ،لأنَّ القضية في حركة الرسالات التوحيدية ،ليست هي في تحرير الإنسان من الوثنية الخارجية المتمثّلة في الحجر أو البشر الذي يعبده النّاس من دون اللّه ،بل هي في تحريره من ذهنية الصنمية ،بحيث لا يبقى لها جذور في الوعي الفكري للإنسان ،فلا يعود إليها عند توفر الظروف الملائمة لها في الواقع الخارجي .
وهذا ما جعل العقوبة على هذا الجرم الكبير قاسية متمثّلة بالإعدام الجماعي الذي يقتل فيه بعضهم بعضاً ،بحيث يقتل المذنبون بعضهم البعض أو يقتل الأبرياء المجرمين ،فذلك هو السبيل الوحيد في الشريعة آنذاك للتوبة التي تتوخى غفران اللّه لهم وتوبته عليهم .
[ذَلِكُمْ] أي القتل ،الذي هو وسيلة التوبة ، [خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ] لأنه يحقّق لكم الحصول على رضاه ،من خلال دلالته على صدق التوبة في عمق الإحساس بالندم ،ويؤدي بالتالي إلى السعادة الكبرى في النجاة من النّار ودخول الجنّة . [فَتَابَ عَلَيْكُمْ] بذلك ، [إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ]على المذنبين التائبين ، [الرَّحِيمُ] بالخاطئين المنيبين .
هل الأمر بقتل أنفسهم امتحاني ؟
جاء في تفسير الميزان:"إنَّ قوله تعالى:[فَتَابَ عَلَيْكُمْ] يدل على نزول التوبة وقبولها ،وقد وردت الرِّواية أنَّ التوبة نزلت ولمّا يقتل جميع المجرمين منهم .ومن هنا يظهر أنَّ الأمر كان أمراً امتحانياً نظير ما وقع في قصة رؤيا إبراهيم ( ع ) وذبح إسماعيل:[أَن يا إِبْرَهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ][ الصافات:104105] ،فقد ذكر موسى ( ع ):[فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ] وأمضى اللّه سبحانه قوله ( ع ) ،وجعل قتل البعض قتلاً للكلّ وأنزل التوبة بقوله:[فَتَابَ عَلَيْكُمْ] .
ونلاحظ على هذا الرأي ،أنَّ هناك فرقاً بين الأمر الصادر لإبراهيم وإسماعيل الذي لم يكن منطلقاً من إرادة جدية في تحقيق الفعل ،بل كان وسيلةً من وسائل إظهار عمق الإسلام الروحي والعملي في موقف إبراهيم وإسماعيل ،الأمر الذي لا علاقة له بالفعل بل بمقدماته ؛وبين الأمر الصادر لهؤلاء الذي كان في أقصى درجات الجدية ،ولذلك أريد له أن يتحوّل إلى واقع امتثالي ،غير أنَّ اللّه سبحانه اكتفى بما حصل من القتل وعفا عن الباقين الذين لم يمتثلوا ذلك ،فأسقط التكليف عنهم باعتبار أنَّ المقصود هو التوبة المنطلقة من الإسلام الروحي ،المنضمة إلى الفعل ،ولا معنى لأن يكون الأمر امتحانياً بالنسبة إلى الباقين الذين لم يقتلوا أنفسهم ،لأنَّ الأمر لم يصدر إليهم بخصوصياتهم ليتميّز أمرهم عن أمر غيرهم ،ولعلّنا نستفيد من الآية السابقة] ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ[ أنَّ هناك عفواً عن الجريمة .
الارتباط اللاواعي:
من خلال هذه الآيات المتقدّمة ،نستطيع استيحاء موقف يرى أنَّ قوم موسى لم ينطلقوا معه من موقع الإيمان برسالته والوعي لمفاهيمها التي تفرض عليهم مسؤولية الفكر والحركة ،بل كانوا يسيرون معه من موقع الانتماء القومي من جهة ،ومن موقع الحاجة إلى التخلّص من ظلم فرعون من جهة أخرى ،ولم تكن قضية الإيمان إلاَّ وسيلةً من وسائل تأكيد هاتين الجهتين بعيداً عن كلّ اعتبار للحقيقة في الموقف ،ما جعلهم ينحرفون عند أيّ منعطف للانحراف ،ويبتعدون عن الجوّ لدى أوّل غياب لموسى ( ع ) عنهم ،لأنهم كانوا خاضعين للتأثير القويّ لشخصيته القوية وإحساسهم بالاعتراف بالجميل ؛وهذا ما يظهر تراجعهم السريع وشعورهم العميق بالذنب عند مواجهتهم لموسى بعد رجوعه من ميقات اللّه .
مهمة القيادة في دراسة خلفيات القاعدة:
ومما نستوحيه أيضاً من هذه الآيات درساً جديداً للعاملين في سبيل اللّه ،وخلاصته: إنَّ على العاملين في سبيل اللّه ،سواء أكانوا في موقع الدعوة ،أم كانوا في موقع العمل والحركة ،أن لا يتأثروا بالمظاهر الانفعالية للإيمان فيمن يتعاونون معهم أو من يتبعونهم ،بل عليهم أن يدرسوا بعمق طبيعة العوامل الداخلية والمؤثرات الخلفية التي استطاعت أن تربط هؤلاء بالقيادة أو بالخطّ العملي ،أو بالفكرة الشاملة ؛فقد تكون المؤثرات خاضعة لطبيعة القائد في قوته الفكرية ،أو جاذبيته الشخصية ،أو انتماءاته العائلية والقومية أو الإقليمية ...وقد تكون الأسباب متصلةً ببعض الأجواء العاطفية للقضية ،أو ببعض ردود الفعل ضدّ حركات معينة ،أو قيادات خاصة تقف في الموقف المعاكس لهذه الحركة أو هذه القيادة ،ما يجعل من الارتباط بها تنفيساً عن عقدة أو تفجيراً لغيظ .وربما تكون العوامل المؤثرة مرتبطة ببعض المواقف السياسية أو الاجتماعية التي تمثّلها حركة الدعوة إلى اللّه في مسيرتها الطويلة ،بحيث يعتبر الارتباط بالدعوة الإسلامية مرحلياً من أجل الوصول إلى الموقف السياسي أو الاجتماعي المحدّد ؛وقد لا تكون القضية نابعةً من ذلك كلّه ،بل هي منطلقة من خطّ الإيمان الحقّ بالفكرة والخطّ والهدف ،فلا بُدَّ للعاملين من دراسة ذلك كلّه ،لتكون مواقفهم مبنية على معرفة عميقة للأرضية التي يقفون عليها ،وللمجتمعات التي يتعاملون معها ويتحرّكون فيها ،لأنَّ ذلك قد يكلّف العمل وجوده ،عندما تختلف حسابات الموقف أمام النماذج القلقة التي تتكشف عنها التجارب في صورة غير منتظرة .