)ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( البقرة:74 )
التفسير:
قوله تعالى:{ثم قست قلوبكم} أي صلبت ،وتحجرت ؛{من بعد ذلك} أي من بعد أن منَّ الله عليكم بما حصل من المدارأة في القتيل حتى تبين ..
قوله تعالى:{فهي} أي قلوبكم{كالحجارة} أي مثلها ؛{أو أشد قسوة} أي من الحجارة ؛لأن الحجارة أقسى شيء .حتى إنّها أقسى من الحديد ؛إذ إن الحديد يلين عند النار ،والحجارة تتفتت ،ولا تلين ؛و{أو} هنا ليست للشك ؛لأن الله سبحانه وتعالى عالم بحالها ؛لكن اختلف العلماء .رحمهم الله .هل هي بمعنى"بل "،فتكون للإضراب ؛أو إنها لتحقيق ما سبق .أي أنها إن لم تكن أشد من الحجارة فهي مثلها ؟في هذا قولان لأهل العلم .رحمهم الله ؛وهي كقوله تعالى:{وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [ الصافات: 147]: فمن العلماء من قال: إن{أو} بمعنى"بل ".أي بل يزيدون على مائة ألف ؛ومنهم من قال: إنها لتحقيق ما سبق .أي إن لم يزيدوا على مائة ألف فإنهم لن ينقصوا ؛والله أعلم بما أراد في كتابه ..
ثم بين الله عزّ وجلّ أن الحجارة فيها خير بخلاف قلوب هؤلاء فإنه لا خير فيها ؛فقال تبارك وتعالى:{وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} يعني إن بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار .أي أنهار الماء التي يشرب الناس منها ،ويسقون بها زروعهم ،ومواشيهم ..
وقوله تعالى:{لما يتفجر}:{ما} اسم موصول في محل نصب اسم{إن}؛واللام للتوكيد ؛أي: لَلذِي يتفجر منه الأنهار ..
قوله تعالى:{وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء}: وهي دون الأول ؛الأول يتفجر منها الأنهار ؛أما هذه فإنها تتشقق ،ويخرج منها الماء كالذي يحصل في أحجار الآبار ،وما أشبهها ..
قوله تعالى:{وإن منها لما يهبط من خشية الله} ،كما قال تعالى:{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} [ الحشر: 21] ،ولما قال موسى عليه السلام:{رب أرني أنظر إليك} [ الأعراف: 143] ،قال الله سبحانه وتعالى له:{لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا وخرَّ موسى صعقاً} [ الأعراف: 143] ..
وقوله تعالى:{من خشية الله} ،{من} هنا سببية ؛و{خشية الله} أي خوفهم مع العلم بعظمته ..
قوله تعالى:{وما الله بغافل عما تعملون}: فنفى سبحانه وتعالى أن يكون غافلاً عما يعملون ؛وذلك لكمال علمه ،وإحاطته تبارك وتعالى ..
الفوائد:
. 1 من فوائد الآية: لؤم بني إسرائيل الذين جاءتهم هذه النعم ومع ذلك فهم لم يلينوا للحق ؛بل قست قلوبهم على ظهور هذه النعم ..
. 2ومنها: تشبيه المعقول بالمحسوس في قوله تعالى:{فهي كالحجارة}؛لأن الحجارة أمر محسوس ؛والقلب قسوته أمر معقول ؛إذ إنه ليس المعنى أن القلب الذي هو المضغة يقسو ؛القلب هو هو ؛لكن المراد: أنه يقسو قسوة معنوية بإعراضه عن الحق ،واستكباره عليه ؛فهو أمر معنوي شبه بالأمر الحسي ؛وهذا من بلاغة القرآن تشبيه المعقول بالمحسوس حتى يتبين ..
. 3 ومنها: أن الحجارة أقسى شيء يضرب به المثل ..
. 4ومنها: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى ،حيث جعل هذه الحجارة الصماء تتفجر منها الأنهار ؛وقد كان موسى .عليه الصلاة والسلام .يضرب بعصاه الحجر ،فينبجس ،ويتفجر عيوناً بقدرة الله .تبارك وتعالى
. 5 ومنها: أن الحجارة خير من قلوب هؤلاء بأن فيها خيراً ؛فإن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار ؛ومنها ما يشقق ،فيخرج منه الماء ؛ومنها ما يهبط من خشية الله ؛وهذه كلها خير ،وليس في قلوب هؤلاء خير ..
. 6 ومنها: أن الجمادات تعرف الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{وإن منها لما يهبط من خشية الله}؛وهذا أمر معلوم من آيات أخرى ،كقوله تعالى:{يسبح لله ما في السموات وما في الأرض} [ الجمعة: 1] ،وقوله تعالى:{تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} [ الإسراء: 44] ،وقوله تعالى:{ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [ فصلت: 11]: ففهمتا الأمر ،وانقادتا ..
. 7 ومن فوائد الآية: عظمة الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{من خشية الله}؛والخشية هي الخوف المقرون بالعلم ؛لقوله تعالى:{إنما يخشى اللّه َ من عباده العلماء} [ فاطر: 28] ؛فمن علم عظمة الله سبحانه وتعالى فلا بد أن يخشاه ..
. 8 ومنها: سعة علم الله سبحانه وتعالى ؛لقوله تعالى:{وما الله بغافل عما تعملون}؛وهذه الصفة من صفات الله سبحانه وتعالى السلبية ؛والصفات السلبية هي التي ينفيها الله سبحانه وتعالى عن نفسه .وتتضمن أمرين هما: نفي هذه الصفة ؛وإثبات كمال ضدها ..