يقول تعالى توبيخا لبني إسرائيل ، وتقريعا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى ، وإحيائه الموتى:( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) كله ( فهي كالحجارة ) التي لا تلين أبدا . ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال:( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) [ الحديد:16] .
وقال العوفي ، في تفسيره ، عن ابن عباس:لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط ، فقيل له:من قتلك ؟ فقال:بنو أخي قتلوني . ثم قبض . فقال بنو أخيه حين قبض:والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا . فقال الله:( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) يعني:بني أخي الشيخ ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة ، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ، وإن لم يكن جاريا ، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله ، وفيه إدراك لذلك بحسبه ، كما قال:( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ) [ الإسراء:44] .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه كان يقول:كل حجر يتفجر منه الماء ، أو يتشقق عن ماء ، أو يتردى من رأس جبل ، لمن خشية الله ، نزل بذلك القرآن .
وقال محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس:( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق ( وما الله بغافل عما تعملون )
[ وقال أبو علي الجبائي في تفسيره:( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) هو سقوط البرد من
السحاب . قال القاضي الباقلاني:وهذا تأويل بعيد ، وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما قالا ; فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل ، والله أعلم] .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي ، حدثني يحيى بن أبي طالب يعني يحيى بن يعقوب في قوله تعالى:( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) قال:هو كثرة البكاء ( وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ) قال:قليل البكاء ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) قال:بكاء القلب ، من غير دموع العين .
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ; وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله:( يريد أن ينقض ) قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة:ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى:( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) الآية ، وقال:( والنجم والشجر يسجدان ) و ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله ) الآية ، ( قالتا أتينا طائعين ) ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ) الآية ، ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله ) الآية ، وفي الصحيح:"هذا جبل يحبنا ونحبه "، وكحنين الجذع المتواتر خبره ، وفي صحيح مسلم:"إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن "وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة ، وغير ذلك مما في معناه . وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير ; أي مثلا لهذا وهذا ، وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين . . وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر:إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزا أو تمرا ، وهو يعلم أيهما أكل ، وقال آخر:إنها بمعنى قول القائل:كل حلوا أو حامضا ; أي لا يخرج عن واحد منهما ; أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين . والله أعلم .
تنبيه:
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى:( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) بعد الإجماع على استحالة كونها للشك ، فقال بعضهم:"أو "هاهنا بمعنى الواو ، تقديره:فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى:( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) [ الإنسان:24] ، وكما قال النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد
تريد:ونصفه ، قاله ابن جرير . وقال جرير بن عطية:
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
قال ابن جرير:يعني نال الخلافة ، وكانت له قدرا .
وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو:أنها للإبهام وبالنسبة إلى المخاطب ، كقول القائل:أكلت خبزا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل ، وقولا آخر وهو أنها بمعنى قول القائل:أكلي حلو أو حامض ، أي:لا يخرج عن واحد منهما ، أي:وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم .
وقال آخرون:"أو "هاهنا بمعنى بل ، تقديره فهي كالحجارة بل أشد قسوة ، وكقوله:( إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ) [ النساء:77] ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات:147] ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) [ النجم:9] وقال آخرون:معنى ذلك ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) عندكم . حكاه ابن جرير .
وقال آخرون:المراد بذلك الإبهام على المخاطب ، كما قال أبو الأسود:
أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا
قال ابن جرير:قالوا:ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد ، ولكنه أبهم على من خاطبه ، قال:وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له:شككت ؟ فقال:كلا والله . ثم انتزع بقول الله تعالى:( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) فقال:أوكان شاكا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال ؟
وقال بعضهم:معنى ذلك:فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين ، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة .
قال ابن جرير:ومعنى ذلك على هذا التأويل:فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشد قسوة من الحجارة . وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره .
قلت:وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى:( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) [ البقرة:17] مع قوله:( أو كصيب من السماء ) [ البقرة:19] وكقوله:( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ) [ النور:39] مع قوله:( أو كظلمات في بحر لجي ) [ النور:40] ، الآية أي:إن منهم من هو هكذا ، ومنهم من هو هكذا ، والله أعلم .
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه:حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أيوب ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي ".
رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه ، عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، صاحب الإمام أحمد ، به . ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب ، به ، وقال:غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم .
[ وروى البزار عن أنس مرفوعا:"أربع من الشقاء:جمود العين ، وقسي القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا "] . .