وقوله: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) القسوة هي الانقباض واليبس والصلابة ،وشبيه بذلك الكزازة ومنها الكز أي اليابس المنقبض ،والمراد بيبس القلب وصلابته أي انقباضه دون الخير والرحمة ،كيلا يستوعب بعد ذلك شيئا من الإيمان أو الإنابةأو الإذعان لله سبحانه ،وتلك هي قسوة القلب ،فإنها تورث في الإنسان إفلاسا من الخير وكل معاني العقيدة الصحيحة ،وهي كذلك تصمه بالانقباض الشديد الذي يحول بينه وبين الخشوع لله أو الخشية منه حتى تنضب فيه مباعث الرغبة في الحق والخير والإيمان .
لقد قست قلوب بني إسرائيل عموما وذلك من بعد ما أراهم الله المعجزة بإحياء القتيل ،وأطلعهم على قدرته التي تخرق طبائع الأشياء والتي لا تصدها النواميس والنظم .ومع ذلك كله فقد انقلب بنو إسرائيل مرتدين ناكبين بعد أن غابت في نفوسهم عوامل الخضوع والتقوى وبعد أن شحت فيهم معاني الفيئة والذكرى .
قوله: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) وقد اختلف في معنى (أو) فقد قيل: إنها للتخيير وقيل: معناها الواو العاطفة أي قلوب بني إسيرائيل تشبه الحجارة في قسوتها وأشد قسوة ،وفي قول آخر بأن أو معناها هنا: بل ،أي أن قلوبهم قاسية كالحجارة بل هي أشد قسوة من الحجارة .
وثمة معنى آخر نرجحه وهو أن الله جلت قدرته أراد أن يبين أن بني إسرائيل من حيث قسوة قلوبهم شطران شطرهم الأول: من كانت قلوبهم كالحجارة في قسوتها ،وأما الشطر الثاني: فإن قلوبهم لهي أشد قساوة من الحجارة والله تعالى أعلم .
قوله: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) يراد بذلك أن قلوب هؤلاء القساة العتاة لهي أشد قسوة من الحجارة نفسها وذلك من حيث التبلد في الحس ،أو من حيث الإمساك والضن بالخير ،فإن قلوب هؤلاء القوم شديدة الضن والشح ،وهي لا تسخو بشيء من الخير كيفما كان ،لكن الحجارة الصلدة الصماء تتفجر منها الأنهار ،لتبعث في الأرض أسباب الحياة والنماء ولتزهو في الدنيا كل مظاهر الخصب والجمال ،وكذلك فإن من الحجارة ما يتشقق أدغمت التاء في الشين فصارت يشقق حتى يتيسر للماء أن يسيل وينهمر ذلك كله منبعث من الحجارة القاسية التي لا تنطق في الظاهر ،غير أنها في الحقيقة تسخو بعطاء سائح غزير يكسب في الحياة بواعث الرغد والجمال والبهاء والعيش الهنيء .
وقوله: (وإن منها لما يهبط من خشية الله) الهبوط في اللغة النزول ،والانحطاط أو التردي من أعلى الى أسفل ،{[80]} لكن المقصود بهبوط الحجارة من خشية الله قد جاء على سبيل المجاز عن خشوعها وانقيادها لأمر الله لكن قلوب هؤلاء يابسة صلدة لا تلين لأمر الله ولا تصيخ لهتاف الحق الساطع الأبلج ،وقيل: بل إن الهبوط من خشية الله لهو حقيقة لا شك فيها ،وأساس ذلك كله أن الكائنات والخلائق جميعا تسبح بحمد الله وذلك على نحو لا يعرف الناس كيفيته .قال سبحانه: ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ){[81]} وما دمنا نتلو هذا الكلام الرباني بتصديق ويقين فإننا لا نتردد في اطمئنان إلى أن الجبل والشجر والمدر والحجر كل أولئك يسبحون الله ويخشونه حق الخشية ،ولا عجب أن يكون من مظاهر هذا التسبيح أو الخشية أن يهبط الحجر من العلو إلى السفل .ولست مترددا في ترجيح هذا الرأي ؛لما يعززه من دليل كقوله تعالى: ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) ولأنه ليس من الممتنع أن ينطق الجماد بإذن الله .ونظير ذلك ما روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خطب فلما تحوّل عنه حنّ .وفي صحيح مسلم:"إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ،إني لأعرفه الآن "وغير ذلك مما في معناه .
قوله: ( وما الله بغافل عما تعملون ) ما نافية تعمل عمل ليس .لفظ الجلالة اسمها مرفوع .غافل خبرها والباء حرف جر زائد ،وقيل: يستعمل للتوكيد .ذلك تعقيب ينطوي على تخويف يتهدد به الله بني إسرائيل الذين مردوا على العصيان والظلم ،وأن الله سبحانه عليم يما يقارفه هؤلاء من مفاسد ومخالفات لا تخفى عليه .