بنو إسرائيل في مراحل التحجّر والتحريف والنفاق:
مرحلة التحجّر:
ثُمَّ جاءت مرحلة جديدة من تاريخ بني إسرائيل ،ولكنَّها تختلف عن المراحل السابقة ؛فقد كانت تلك المراحل تمثّل جانب التمرّد الذي يلين بعد ذلك إلى التوبة والإنابة والطاعة ،وتعيش طبيعة المشاغبة التي تثور ثُمَّ تتطامن وتهدأ وتفيء إلى الاستقامة .
أمّا هذه المرحلة الجديدة ،فإنها تمثّل التحجر الذي أصاب عقولهم وأرواحهم ،فأغلقها عن الانفتاح على كلّ وحي إلهي ،أو فكر إنساني ،أو شعور روحي ،فليس هناك مجال للحقّ ،لأنَّ النوافذ كلّها مشرعة على الباطل ،وليس هناك مجالٌ للرحمة ،لأنَّ الآفاق كلّها قد امتلأت بالحقد والعداوة والبغضاء ،وبالأنانية التي لا تعرف غير الذات في أطماعها وشهواتها مجالاً للتفكير وللتعاطف .
[ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً] .ويتصاعد الأسلوب القرآني في تصوير المدى الذي بلغته القسوة التي تطبع شخصيتهم بطابعها ،فلا يجد في الحجارة مثلاً صالحاً لإعطاء الصورة الصارخة ،بعد أن بدأ الموضوع من هذا الجانب ،لأنَّ التشبيه يفرض أن يكون وجه الشبه في المشبّه به أقوى من المشبّه ،كما تقول: زيد كالأسد ،باعتبار أنَّ الشجاعة التي هي وجه الشبه في الأسد أقوى منها في زيد ،ما يعطي التشبيه دوراً في إيضاح صورة الشجاعة في زيد بشكل أقوى ...أمّا هؤلاء ،فإنَّ قلوبهم أقسى من الحجارة ، [وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ]فينتشر منها الخصب والجمال في كلّ مكان .. [وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ] أي الينابيع الصغيرة ،التي تسقي من حولها وما حولها .. [وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه] ،وهي تعبير عن انفعال هذه الحجارة التي تتساقط بفعل العوامل الطبيعية ،بالخضوع التكويني لإرادة اللّه في إطار العظمة الكونية الخاضعة له ،نظير التعبير بالطاعة في السَّماء والأرض ،والسجود والتسبيح في سائر المخلوقات الحيّة والجامدة ...هذه هي قصة الحجارة التي تبدو قاسية في ملامحها ،صلبةً في تكوينها .أمّا هؤلاء ،فإنَّ قلوبهم لا تنفتح للرحمة ولا للعطاء ،فهم يقتلون الأنبياء بغير حقّ ،ويبخلون بأموالهم وعلومهم وقواهم على المستضعفين ،ولا يعيشون الخشوع الروحي الذي تستسلم فيه القلوب والأرواح والعقول للّه استسلام الخاشعين .
ولعلّ هذه المرحلة هي مرحلة قتل الأنبياء وتكذيبهم واضطهادهم ،وتحويل تاريخهم الديني إلى واجهةٍ لاستغلال المستضعفين باسم الدِّين ،وهو ما يحدّثنا القرآن عنه في ما نستقبل من حديث .
[وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] في انحرافكم العملي عن خطّ الاستقامة ،وفي تمرّدكم على الرسالة والرسول ،وفي وحشيتكم القاسية في قتل الأنبياء بغير حقّ .
التاريخ في خطى الحاضر:
وقد نستوحي من هذه الصورة القاتمة القاسية لهؤلاء ،أنَّ علينا أن نتطلّع في مسارنا العملي إلى النماذج الحيّة المتمثّلة في واقعنا المعاصر ،ممن يقفون ضدّ المؤمنين والمصلحين الذين يدعون النّاس إلى السير في الحياة على الخطّ المستقيم ،وضدّ الشعوب التي تطالب بالعدل والحقّ والحرية ،فيضطهدونهم ويواجهونهم بالقتل والتشريد والسجن والتعذيب ،لا لشيء إلاَّ لأنهم يخافون على امتيازاتهم وأطماعهم واستغلالهم من الدعوات الإصلاحية والثورية ،سواءٌ في ذلك الفئات الحاكمة الطاغية التي تقف في مراكز الحكم ،أو الفئات المترفة التي تملك زمام الثروة في المجتمع فتمنعها عن الطبقات المحرومة الضعيفة ،أو الفئات الكافرة الضالّة التي تملك قوّة النفوذ والسلاح ...إننا نستطيع أن نجد في كلّ أساليبهم وتصرّفاتهم هذه الصورة التي يقدّمها القرآن لبني إسرائيل ،وبهذا لا يعود التاريخ الإسرائيلي الذي قصّه علينا القرآن مجرّد مرحلة من مراحل الماضي ،بل يتحوّلفي وعيناإلى صورة حيّة للإنسان القاسي الموجود في كلّ زمان ومكان .أمّا سبيلنا إلى استحضار هذه الصورة في وعي النّاس ،فهو التركيز على طبيعة السلوك الإسرائيلي في المرحلة التي تحدّث عنها القرآن ،ودراسة الخصائص الذاتية والعملية في شخصية أولئك النّاس ،ثُمَّ البدء في عملية مقارنة مع النماذج المعاصرة المشابهة لها في طبيعتها وخصائصها وتصرّفاتها ،لتتعمق الصورة القرآنية من خلال الخطوط العامة ،لا من خلال الحالة الخاصة ،لئلا نقع في ما يقع فيه الكثيرون ممن يلعنون التاريخ في نماذجه الشريرة ،ثُمَّ يباركون النماذج نفسها التي تأخذ في الحاضر صورة أشخاص ذلك التاريخ ،انطلاقاً من الاستغراق في الشخص بعيداً عن العوامل الذاتية التي تثير فينا الشعور معه أو ضدّه ...
إنها قصة الوعي القرآني المتحرّك الذي يجعل الآية تتحرّك في مدى الزمن في صورها الحيّة ،وتطلّعاتها الواسعة ،وخطواتها التي تطبع الخير والرحمة والبركة في كلّ مكان وزمان ...
مرحلة التحريف:
ويقف القرآن مع النبيّ والمؤمنين معه ،في معالجة قضية الدعوة أمام اليهود ؛فقد كان النبيّ والمؤمنون معه يستشيرون مختلف الأساليب الفكرية والعاطفية في إقناعهم بالإسلام ،من أجل أن يؤمن اليهود المعاصرون للدعوة الإسلامية ،لأنهم كانوا يرون بعض ملامح الأمل في بعض كلماتهم وأوضاعهم العامة ،وكانوا يبذلون في ذلك جهداً كبيراً ،لما يمثّله اليهود في المدينة من قوّة روحية ومادية ،ما يجعل من إيمانهم بالإسلام قفزةً كبيرة إلى الأمام في مجال القوّة الإسلامية المتقدّمة .