{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ}وهذا خطاب للنبيّ وللمؤمنين معه الذين كانوا يطمعون في إيمان اليهود في المدينة لأنهم أهل كتاب ،فقد اطلعوا على ما في التوراة من حقائق العقيدة والشريعة والبشارة بالنبيّ محمَّد ( صلىالله عليه وسلم ) مما جاء القرآن مصدِّقاً له ،الأمر الذي يجعل الحقيقة الإسلامية واضحة أمامهم بحيث لا مجال فيها لأية شبهة ،بل قد تكون المسألة في الوجدان الإسلامي للمسلمين في علاقتهم باليهود أنهم قد يتحوّلون إلى دعاةٍ للإسلام من موقع الوعي العقيدي المرتكز على العلم الذي حصلوا عليه من التوراة ،ولكنَّ القرآن يؤكد للمسلمين أنَّ المشكلة لدى هؤلاء ليست كالمشكلة لدى غيرهم من الكافرين ،وهي مسألة جهلهم بالإسلام وبالحقائق الكامنة فيه ،ليحتاج النبيّ إلى جهد كبير في تعليمهم الكتاب والحكمة والدخول معهم في حوار طويل ،بل المشكلة مشكلة عنادٍ مع سبق الإصرار ،انطلاقاً من أنَّ قضية الدِّين لم تكن لديهم قضية التزام فكري وعملي ،بل هي قضية تأكيد للذات على مستوى ذهنية المهنة التي تمنح صاحبها موقعاً اجتماعياً متقدّماً ،وربحاً مادياً كبيراً ،مما يؤدي بهم إلى تحريف النص الديني إلى غير ما يوحي به من الحقائق ،ليسخّروه في خدمة أطماعهم وشهواتهم ،ويوظفوه لهذا الطاغية وذاك المنحرف ،ويؤوّلوه على حسب الأوضاع الطارئة الموجودة في واقعهم ،كما كانوا يقولون عن المسلمين في حديثهم عن المشركين:{ هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً}[ النساء:51] مع وضوح الضلال الإشراكي في عبادتهم للأوثان ،والهدى الإسلامي في توحيد اللّه في العقيدة والعبادة ،لذلك فإنَّ قضية الكفر عندهم لم تكن منطلقة من الفكر المضاد ،بل من الذاتيات المنحرفة الغارقة في الأطماع والشهوات ،وهذا هو النموذج الذي تمثّله القوى المتقدّمة فيهم .
{ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه}ويدركون معانيه وإيحاءاته ودلالاته التي تقودهم إلى معرفة الحقّ في الدِّين الجديد والصدق في النبيّ المرسل ،{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ}ويؤوّلونه ،ويبتعدون به عن ظاهره إلى معنى آخر ،لا علاقة له بالحقائق العقيدية الإيمانية{ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}وعرفوه في عمقه وامتداده ،بحيث لم تكن هناك شبهة ،{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}ويجعلون الحرام حلالاً والحلال حراماً ،ويقولون:{ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}[ آل عمران:75] فيحلّون لأنفسهم نهب أموال العرب الذين يطلقون عليهم اسم الأميين ،بحجة أنَّ التوراة تبيح لهم ذلك .
فكيف تطمعون أن يؤمنوا لكم بعد ذلك ،لأنَّ الإيمان لا بُدَّ من أن يتحرّك من موقع قلق المعرفة الباحثة عن الحقّ ،وإرادة الإيمان المنطلقة في خطّ الفكر .
وقد كان هذا الاتجاه المتحرّك من موقع الأمل الكبير يشكّل خطورةً على مسار العمل الإسلامي ،لأنَّ ذلك يضيّع كثيراً من الجهود الفكرية والعملية التي يحتاج الإسلام إلى بذلها في مجال آخر نافع ،باعتبار أنَّ إيمانهم ليس وارداً في حسابهم في واقع الحال ،ولأنَّ ذلك يسلم المسلمين إلى السذاجة الروحية ،وفقدان الحذر اللازم ،عندما يدخل بعض اليهود في الإسلام ،فيحصلون على الثقة التي تمنحهم حرية التحرّك في تخريب الإسلام من الداخل ،انطلاقاً من صفة الإيمان التي حصلوا عليها ،ولأنَّ إغفال المعرفة الحقيقية لما هُم عليه ،يُعطّل على المسيرة الإسلامية التحرّك الفعلي ضدّ المخططات التي كانوا يرسمونها في الخفاء للقضاء على الإسلام والمسلمين .
وعلى ضوء ذلك ،نشعر بأنَّ عملية تعرية الواقع الحاضر ،بعد عملية تعرية التاريخ ،ضرورة لحفظ الدعوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي من أخطار السذاجة والتضليل ؛وذلك بالالتفات إلى أنَّ هداية أيّ شخص لأية فكرة تتوقف على شرط الاستعداد النفسي لتقبّل هذه الفكرة أو الإيمان بها ،وخاصة في الحالات التي يعيش فيها البساطة الذهنية والقلق الروحي إزاء معرفة المجهول ،فعندها يكون مستعداً للأخذ والردّ والدخول في عمليات الحوار في مختلف الجوانب ..أمّا هؤلاء ،فقد أغلقوا نوافذ أفكارهم عن كلّ شيء جديد ،لأنهم لا يتعاملون مع الحقّ بروحية الإيمان الذي يبحث عن الفكرة ليرتبط بها ،بل بعقلية التاجر الذي يريد أن يحقّق لنفسه الربح المادي الوفير من خلاله ،فإذا فقد هذه الفرصة اتجه إلى التحريف ،ليستطيع أن يحقّق لنفسه رغباتها على أساس ذلك ،وهذا ما عرفوه من آيات اللّه في التوراة ،فقد عرفوا الحقّ من خلالها كأوضح ما يكون ،ولكنَّهم حرفوه عندما وجدوا أنهم لا يستطيعون أن يحقّقوا لأنفسهم فيه مكسباً ومطمعاً ذاتياً ...وفي ضوء ذلك ،لا مجال لأي تفكير أو طمع رسالي بهدايتهم أمام هذه الروح الغارقة في الضلال .