ذكر الله تعالى أحوال بني إسرائيل عقب ما كان من إبليس لآدم عليه السلام ، وقد كان ذكرهم بعد آدم وإن لم يكونوا أول أولاد آدم في الأرض ، بل جاءوا بعده بمئات الألوف فيما نزعم ، لأنهم أوضح صورة إنسانية ، لتحكم إبليس في ابن آدم ، فقد قامت بين أيديهم الأدلة ، والآيات الحسية ، والنعم ، ومع ذلك كفروا وإذا كانت تلك حالهم في الماضي ، والحاضرون يوافقونهم ويعتزون بهم مع هذه المآثم ، ويحسبون أنهم بماضيهم الذي نسوه مفاخرون العرب ، ويقولون فيهم:ما علينا في الأميين من سبيل ، فإنه لا مطمع في إيمانهم ؛ لأن الجاهل يطمع في إيمانه إذا علم وقامت البينات الداعية ، أما المغتر المعاند في ماضيه وحاضره ، فإنه لا مطمع في إيمانه .
ولذا قال الله تعالى مخاطبا محمدا صلى الله عليه وسلم ، ومن اتبعه من المؤمنين:{ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه} .
الفاء مؤخرة عن تقدم ، لأن الاستفهام له الصدارة ، والفاء للإفصاح عن شرط متضمن ما كان في ماضيهم منذ آدم ، وكفر متوال بأنعم الله تعالى ، والاستفهام إنكاري بمعنى النهي ، لأنه إنكار للواقع ، إذ الواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رسول يدعو إلى الهدى يطمع في إيمان من يدعوهم ، فينكر الله تعالى عليه ذلك ، ويكون الاستنكار بمعنى النهي ، أي لا تطمعوا في أن يؤمن هؤلاء فإن ماضيهم الذي يراه حاضرهم ويؤمنون به ليس من شأنه أن يطمعكم في إيمانهم ، بل إنه يلقي باليأس من الإيمان في قلوب الذين يدعونهم ، ويخلصون في دعوتهم .
وقوله تعالى:{ أن يؤمنوا لكم} التعدية باللام ؛ لأنها تتضمن معنى الاستجابة ، والمعنى أتطمعون أن يؤمنوا مستجيبين لكم . وآمنوا تتعدى بالباء إذا كان ما بعدها هو الذي يؤمن به كقولك:{ آمنوا بالله ورسوله . . . ( 7 )} [ الحديد] ، ومثل قوله تعالى:{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( 8 )} [ البقرة] .
وتتعدى باللام إذا كانت متضمنة معنى الاستجابة للداعي ، ومن ذلك:{ فآمن له لوط . . . ( 26 )} [ العنكبوت] ومثل قوله:{ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم . . . ( 73 )} [ آل عمران] .
ولذلك كان التعدي هنا باللام ، إما لتضمن الإجابة معنى الاستجابة ، وإما لأن اللام للتعليل ، أي لا تطمعوا في إيمانهم لأجل دعوتهم ، فهم ميئوس من إيمانهم لما كان منهم في الماضي ، وما يكون منهم في الحاضر .
وقد بين سبحانه سبب الغواية في جملة حالية هي{ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه} هذا الفريق أكان في عهود سابقة في عهد موسى أم حالهم الحاضرة ؟ .
قال كثير من مفسري السلف:إنهم كانوا في عهد موسى عليه السلام ، وقد كانوا يحاولون أن يسمعوا كلام الرب سبحانه وتعالى ، كما يسمعه كليم الله موسى عليه السلام ، ولكن ذلك بعيد ، إنهم سمعوا كلام الله من لسان موسى في التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام ، وعقلوه ، وفهموه ثم حرفوه قاصدين تشويه ما سمعوا ، وإفساد الحقائق وقد فهموها .
وبعض المفسرين يروون أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ، وأن الفريق الذي سمع كلام الله تعالى بتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم هو من اليهود الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسمعوا ما يدعوهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم وعقلوه ، وأدركوا مراميه وغاياته وما يدعوهم إليه ، ثم بعد ذلك يحرفونه ، وينقلونه إلى إخوانهم محرفا ، غير دال على حقيقة ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم فريقان:سامع محرف ، ومعرض ابتداء لا يحضر في المجلس النبوي .
وما التحريف وكيف يكون ؟ فنقول:التحريف في الكلام له معنيان:أحدهما التغيير في معناه ، بأن يحرفوه على طرف من المعنى ، بأن يخرجوه عن لب معناه إلى طرف من أطرافه ؛ لأن الحرف أصله الطرف دون اللب والوسط فهم يتجهون إلى التعلق بغير لب القول .
والتحريف إمالة القول إلى غير معناه ، وهذا هو النوع الثاني ، وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته ونص كلامه "تحريف الكلام"أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين . قال عز وجل:{ يحرفون الكلم عن مواضعه . . . ( 13 )} [ المائدة]{ يحرفون الكلم من بعض مواضعه . . . ( 41 )} [ المائدة]{ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ( 75 )} .
والتعريض ب"ثم"يفيد البعد المعنوي بين ما سمعوه وعقلوه ، وتدبروه ، وعرفوا غايته ، وبين التحريف الذي حرفوه مما يدل على فساد نفوسهم ، وضلال قلوبهم .
وأخبر سبحانه وتعالى أن التحريف من بعد ما عقلوه ، وعرفوه عرفان الخبير المدرك ، الفاهم ، لا أنهم حرفوا عن غير علم ومن غير معرفة بمدلولات الألفاظ ومراميها ، ومقاصدها ، وغاياتها ، فتحريفهم بقصد التضليل ، ومن يقصد التضليل يكون قلبه مصروفا عن الحقائق فلا يدركها ، ولا يذعن لها إن أدركها ، بل هو يصد عن سبيلها .
ثم أكد سبحانه وتعالى سوء مقصدهم ، وغاية عملهم ، فقال تعالى:{ وهم يعلمون} أي وهم يدركون الكلام الذي سمعوه ، ويعرفون مرماه ومقصده ، ومع ذلك يحرفونه آثمين فاسدين مفسدين .
هذا على اعتبار أن الذي خاطب الفريق محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه .
ويجب في مقام ذكر معاني هذه الآية أن نذكر أمورا ثلاثة:
أولها:أن الذين حرفوا القول عن مواضعه فريق منهم ، وليسوا جميعا ، فكيف يكون اليأس من إيمان كلهم بعمل فريق ؟ والجواب عن ذلك أن الفريق الذي سمع أرضى بقوله الفريق الذي لم يسمع ، بل إن الفريق الذي لم يسمع كان معرضا عن سماع النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو كان قابلا لاستماع القول المحرف راضيا به مصدقا له ، فهم كانوا على سواء ، وكذلك الأمر على التفسير بأن السماع كان من فريق من قوم موسى سمعوا من موسى وحرفوه ، فقبله الآخرون وهم راضون ، فكانوا مع غيرهم على سواء ، ولا فرق بينهم .
الأمر الثاني:أنه إذا كان الفريق الذي حرف في عهد موسى أو بعده ، فإن ذلك سائغ بعد موسى ثابت ، والراجع للتوراة القائمة بين أيدينا يجد أمارات التحريف تلوح ، وقد بينا ذلك في بحث رددنا به على بعض الكذابين ، الذين قالوا في القرآن ما قالوا من افتراء وكذب رددناه في نحورهم .
وقد أثبت كتاب النصارى أن التحريف لا يزال يجري في الكتب عندهم ما بين كتب العهد القديم ، والجديد ، واقرأ في ذلك كتاب "ذخيرة الألباب"لأحد كتاب النصارى ، فإنه بين بطريق لا يقبل الشك أن التحريف حدث في التوراة والإنجيل ، وأثبت الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق"أن التغيير والتبديل لا يزال يجري إلى الآن في كتبهم .
الأمر الثالث:الذي نشير إليه أن أثارة باقية في كتبهم ربما تكون صادقة ، ولكن اختلطت بباطل كثير .
كان اليهود يسمعون كلام الله تعالى ، ثم يحرفونه من بعد أن يعقلوه ، وهم يعلمون موضع التحريف .