وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالا أخرى من أحوالهم ، وهي أنهم كانوا يظهرون الإيمان في حضرة المؤمنين فإذا خلوا مع أحد منهم تلاوموا على إظهارهم الإيمان ؛ ولذا قال تعالى:{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذ خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم} .
هذا وصف للمنافقين ذكره الله تعالى من قبل في قوله تعالى:{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( 8 ) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 9 )} إلى آخر الآية التي ساقها القرآن الكريم ، والأمثلة التي ضربها في كشف حالهم .
وهذه الآية التي نتكلم في معناها أتت بأمر خاص باليهود الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أنهم لفرط غرورهم يحسبون أن الله تعالى لا يعلم خفي أمرهم ، فهو نوع من النفاق أضلهم .
{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} أي صدقنا وأذعنا لكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم آمنا بأنه الحق من عند الله وبأن ما جئت به هو الحق .
وقد حسبوا أنهم بذلك قد نجوا من الملامة ، فحفظوا المظهر بما أظهروه ، وحفظوا كفرهم فلم يعلنوه ، ولكن إخوانهم وهم على ملتهم ، وعلى جحودهم لم يرضوا بالظهور بهذا المظهر .
فإذا خلا بعضهم إلى بعض ، فالتقى الذين أظهروا ما لم يبطنوا ، والذين لم يلقوا الرسول ، كان التلاوم فيقول الذين لم يلقوا المؤمنين{ أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} ، أي بما حكم الله تعالى به عليكم ، فالفتح في لغة العرب والحكم بأمر القضاء ، كما قال تعالى:{ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق . . . ( 89 )} [ الأعراف] .
وما حكم الله تعالى به في هذا المقام هو بشارة التوراة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى:{ ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد . . . ( 6 )} [ الصف] ، وقد أخذ العهد عليهم بأن يتبعوه ويؤمنوا به إذا جاءهم ، فالاستفهام إنكاري لإنكار فهم الوقوع فهم يوبخونهم على أنهم حدثوهم بما قضى الله تعالى عليهم بأن يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم ، وإنه كان يجب عليهم أن يستمروا في جحودهم ، وعللوا لوم إخوانهم بقولهم:{ ليحاجوكم به عند ربكم} أي ليكون حجة عليكم عند ربكم ، يحاجونكم به ، والاعتراف حجة ظاهرة .
وإنهم بذلك يزعمون أمرين كلاهما باطل:
أولهما – أنهم يحسبون أن الله تعالى يحتاج في معرفة ما هم عليه إلى إقرارهم ، وهو عالم الغيب والشهادة ، وعالم السر والجهر ، وأنهم مأخوذون بما واثقهم عليه ، وبالحق الذي أمرهم بإتباعه .
وثانيهما – أنهم يحسبون أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما كانوا يعلمون ما عند اليهود إلا بإقرارهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم ، والمسلمون يعرفون ما في كتبهم من بشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم أنفسهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .
ولقد بين الله تعالى بطلان كلامهم وبعده عن المعقول فقال تعالى:{ أفلا تعقلون ( 76 )} الفاء مؤخرة عن تقديم لأن صيغة الاستفهام لها الصدارة ، والفاء للإفصاح ، والاستفهام داخل على نفي ، فهو من قبيل نفي النفي وهو في نتيجته يدعوهم سبحانه وتعالى إلى أن يعقلوا ، ويتفكروا ويتدبروا ، ويدركوا ما يؤدي إليه كلامهم ، وهو بعده عن كل معقول ، فهم يتصورون أن الله تعالى لا يعلم حالهم ، وما أخذ عليهم من مواثيق ، وما وضع من إشارات إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم ، يتصورون ذلك ويحسبون أن المؤمنين يحاجون عند الله بهذا الاعتراف ، ولا يعرفون أن الله تعالى يعرف سرهم ونجواهم . وقد يفسر قوله تعالى:{ أفلا تعقلون ( 76 )} على أنه كلام بعضهم ، ويكون معناه على أنه من لسانهم ،{ أفلا تعقلون ( 76 )} وتتدبرون نتيجة كلامكم من أنهم يحاجونكم به عند ربكم ، ويكون هذا إمعانا في الجهل بحالهم وعلم الله تعالى ، ونحن نميل إلى احتمال توجيهه من الله تعالت كلماته .