/م75
ثم بعد هذا الاحتجاج انتقل إلى بيان بعض أحوال الذين كانوا في زمن التنزيل وقد غير الأسلوب هنا فإنه كان يحكي سيئاتهم مبتدئا بكلمة ( وإذ ) لأنه تذكير بما كان في الزمان الماضي .والابتداء بكلمة ( إذا ) هنا هو المناسب في الحكاية عن حال واقعة في الحال ، مستمرة في الاستقبال ، والمراد من حكاية أحوال الحاضرين ، بيان أنها مساوي لأحوال سلفهم الغابرين ، وأنه لا يرجى من هؤلاء أفضل مما كان من أولئك .قال:{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا .وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا:أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟}
ترشد هذه الآية إلى طور من أطوار البشر في زمن الإصلاح وهي أن جماهير الناس يقعون في الحيرة بين الهداية الجديدة والتقاليد القديمة لا ينظرون إلى الحق فيتحروا اتباعه أين كان ، ولكنهم يفكرون في منفعتهم الخاصة .يقولون:نخشى أن نجهر بالجديد فيخذل حزبه ويتفرق شمله ، فنكون من الخاسرين .ولا نأمن إن بقينا على القديم أن يتقلص ظله .ويذل أهله ، فنكون مع الضالين .فالحزم أن نوافق كل حزب نخلو به ونعتذر إلى الآخر إذا هو علم بما كان منا إلى أن نتبين الفوز في أحد الفريقين:فيكونون هكذا مذبذبين كما قال تعالى"وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا .وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم "الخ الضمير في قالوا الثانية غير الضمير في قالوا الأولى كما هو ظاهر من السياق ، ولا لبس فيه ولا اشتباه ، ومثله مستفيض في كلام البلغاء وفي التنزيل أيضا كقوله تعالى{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} فإن المنهي عن العضل الأولياء لا المطلقون .والكلام في القرآن للمكلفين كافة فيوجه كل كلام إلى صاحبه الذي يتعين أن يكون له بقرينة الحال أو المقال .فإذا وجه الخطاب بالطلاق إلى الأزواج لأنه لا يكون إلا منه فكذلك يوجه الخطاب بالنهي عن العضل – وهو منع المرأة من التزوج – إلى الأولياء لأنه لا يكون إلا منهم .وعلى هذه الطريقة يتخرج قوله{ قالوا آمنا} وقوله{ قالوا أتحدثونهم} فالكلام في مجموع اليهود ، ويوجه الأول إلى الذين يلاقون المؤمنين ( والثاني ) إلى الذين يلاقيهم هؤلاء من قومهم ويعدلونهم على الإفضاء إلى المؤمنين بما فتح الله عليهم .
المراد بالفتح هنا الإنعام بالشريعة والأحكام ؛ والبشارة بالنبي عليه الصلاة والسلام ، شبه الذي يعطي الشريعة بالمحصور يفتح عليه فيخرج من الضيق .أو معنى{ بما فتح الله عليكم} بما حكم به وأخذ به الميثاق عليكم من الإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم ونصره ، وقوله{ ليحاجوكم به عند ربكم} معناه يقيمون به عليكم الحجة من كتاب ربكم وهو التوراة من حيث إن ما تحدثونهم به موافق لما في القرآن فلهم أن يقولوا:لولا أن محمدا نبي لما علم بهذا الذي حكاه عنكم وقد كان مثلنا لا يعرف من أمر الكتاب شيئا:هذا ما جرى عليه المحققون في تفسير{ عند ربكم} وهو انه بمعنى في كتابه فهو كقوله في أهل الإفك{ فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} أي في حكمه المبين في كتابه .
وذهب مفسرنا ( الجلال ) إلى أن معناه المحاجة في الآخرة والنظم لا يأباه ، ولكن فيه اعترافا من اللائمين المؤنبين بأن المسلمين على الحق الذي لا ينجى عند الله سواه .
ومن اعتقد هذا لا يجعله تعليلا للإنكار على من يراه من قومه يحدث المؤمنين بما يوافقهم ويقوي حجتهم ، بل فيه أيضا أن ترك تحديثهم لا يمنعها في الآخرة .
مثل هذه الذبذبة تكون من الأمم في طور الضعف ولا سيما ضعف الإرادة والعلم ، ولو كان لأولئك القوم إرادة قوية لثبتوا ظاهرا على ما يعتقدونه باطلا ولم يصانعوا مخالفيهم من أهل الملة الأولى أو الملة الآخرة ،