/م75
قال تعالى{ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} كان الظاهر أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ولكن خاطب المؤمنين معه لأنهم كانوا يشاركونه في الألم من إيذائهم والطمع بهدايتهم فأشركهم بالتسلية كما سبق ، ولأن طمع بعض المؤمنين بإيمانه كان يحملهم على الانبساط معهم في المعاشرة إلى حد الإفضاء إليهم ببعض الشؤون الملية المحضة واتخاذهم بطانة ، وكان يعقب ذلك من الضرر ما يعقب حتى نهاهم الله تعالى عن اتخاذ البطانة من دون المؤمنين إذا كانوا موصوفين بأوصاف هؤلاء ، وذلك قوله تعالى{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر} والآية الآتية تدل على هذا الإفضاء أيضا .
أما الحجة التي وصلها بإنكار الطمع بإيمانهم للدلالة على أنه طمع في غير مطمع فهي تعمد تحريف كلام الله ممن سمعه منهم .وذلك أن موسى اختار بأمر الله سبعين رجلا من قومه لسماع الوحي ومشاهدة الحال التي يكلمه الله تعالى بها وقد سمعوا كلام الله تعالى على الوجه الذي لا نعرفه ، وإنما نعرف أنهم صحبوه إلى حيث كان يناجي الله تعالى ، وكان من شأن الله تعالى معهم أن صدقوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام هو وحي من الله تعالى .والتصديق بذلك لا يتوقف على معرفة كيفيته وكنهه فإن أكثر ما نصدق به تصديق يقين لا نعرف حقيقته وكنهه ولا كيفية تكوينه وإيجاده .وقد كان من أولئك المختارين أنهم لما رجعوا إلى قومهم حرفوا كلام الله الذي حضروا وحيه وأذعنوا له بأن صرفوه عن وجهه بالتأويل – كما حققه ابن جرير الطبري وغيره وهذا التحريف ثابت عندهم منصوص في التوراة والتاريخ الديني الذي يسمى التاريخ المقدس .
فدل هذا وما سبقه على أن القسوة المانعة من التأثر والتدبر ، ومكابرة الحق والتقصي عن عقال الشريعة ، كان شنشنة قديمة فيهم ، ثم تأصل فصار غريزة مطبوعة ، فإعراضه عن القرآن لا يستلزم الطعن عليه ، ولا القول بجواز تسلق شيء من الريب إليه ، فإنهم قد حرفوا وبدلوا ، وعاندوا وجاحدوا ، وهم يشاهدون الآيات الحسية ، ويؤخذون بالعقوبات المعاشية ، فكيف يستنكر بعد هذا أن يعرضوا عن دين دلائله عقلية ، وآيته الكبرى معنوية ، وهي القرآن المعجز بما فيه من علوم الهداية ، ودقائق البلاغة ، وأنباء الغيب على أنه من أمي عاش أربعين سنة لم يؤثر عنه فيها شيء من العلم ، ولم يزاحم فحول البلاغة في نثر ولا نظم ، وفهم تلك الدلائل إنما يكون من ذوي العقول الحرة والقلوب السليمة ، الذين لطف شعورهم ، ورق وجدانه وصحت أذواقهم .
قال ابن جرير:لو كان المراد بما هنا تحريف كلام التوراة المكتوب لما قال يسمعون كلام الله ثم يحرفونه فزيادة"يسمعون "هنا لا بد لها من حكمة ولولا ذلك لجاء الكلام على نسق الآيات الأخرى التي ذكر فيها التحريف كأن يقول"وقد كان فريق منهم يحرف كلام الله ".وقوله تعالى"من بعد ما عقلوه "نص في التعمد وسوء القصد ، وإبطال لما عساه يعتذر لهم به من سوء الفهم ، ثم قال"وهم يعلمون "أي كانوا يفعلون فعلتهم الشنعاء في حال العلم بالصواب واستحضاره لا أنهم كانوا على نسيان أو ذهول .وفي هذين القيدين من النعي والتشنيع عليهم مالا مزيد عليه .وكيف وقد بطل بهم العذر الخطأ والنسيان ، وسجل عليهم تعمد الفسوق والعصيان .