قوله تعالى:{ولتجدنهم أحرص الناس على حياة}؛اللام في{لتجدنهم} موطئة للقسم ؛والنون للتوكيد ؛وعليه تكون الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم ،واللام ،والنون ؛والضمير الهاء يعود على اليهود ؛و{أحرص} اسم تفضيل ؛و"الحرص "هو أن يكون الإنسان طامعاً في الشيء مشفقاً من فواته ؛والحرص يستلزم بذل المجهود ؛ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم"احرص على ما ينفعك ،واستعن بالله ،ولا تعجز "{[124]}؛ونكر{حياة} ليفيد أنهم حريصون على أيّ حياة كانت .وإن قلّت ؛حتى لو لم يأتهم إلا لحظة فهم أحرص الناسعليها ..
قوله تعالى:{ومن الذين أشركوا} أي الشرك الأكبر ؛واختلف المفسرون فيها ؛فمنهم من قال: هو مستأنف ،والكلام منقطع عما قبله ؛والتقدير: ومن الذين أشركوا من يود أحدهم لو يعمر ...؛وهذا وإن كان محتملاً لفظاً ،لكنه في المعنى بعيد جداً ؛ومنهم من قال: إنه معطوف على قوله تعالى:{الناس} يعني: ولتجدنهم أحرص الناس ،وأحرص من الذين أشركوا ؛يعني: اليهود أحرص من المشركين على الرغم من أن اليهود أهل كتاب يؤمنون بالبعث ،وبالجنة ،وبالنار ؛والمشركون لا يؤمنون بذلك ،والذي لا يؤمن بالبعث يصير أحرص الناس على حياة ؛لأنه يرى أنه إذا مات انتهى أمره ،ولا يعود ؛فتجده يحرص على هذه الحياة التي يرى أنها هي رأس ماله ؛وهذا القول هو الصواب ..
قوله تعالى:{يود أحدهم لو يعمر ألف سنة}؛ "الود "خالص المحبة ؛والضمير في{أحدهم} يعود على المشركين لا غير .على القول الأول: أي أن قوله تعالى:{ومن الذين أشركوا} مستأنف ؛وعلى القول الثاني: يحتمل أن يكون الضمير عائداً على اليهود ؛ويصير انقطع الكلام عند قوله تعالى:{أشركوا}؛ويحتمل أن يكون عائداً إلى المشركين ؛ويرجحه أمران: .
أحدهما: أن الضمير في الأصل يعود إلى أقرب مذكور ؛والمشركون هنا أقرب ..
والثاني: أنه إذا كان المشرك يود أن يعمر ألف سنة ،وكان اليهودي أحرص منه على الحياة ،فيلزم أن يكون اليهودي يتمنى أن يعمر أكثر من ألف سنة ..
وقوله تعالى:{لو يعمر} أي لو يزاد في عمره ؛و "العمر "هو الحياة ؛و{لو} هنا مصدرية ؛وكلما جاءت بعد"ود "فهي مصدرية ،كما في قوله تعالى:{ودوا لو تدهن فيدهنون} [ الأحزاب: 20] ،وقوله تعالى:{يودوا لو أنهم بادون في الأعراب} [ يونس: 87]؛ومعنى"مصدرية "أنها بمعنى"أنْ "تؤول ،وما بعدها بمصدر ،فيقال في الآية .{يود أحدهم لو يعمَّر ألف سنة}: يود أحدهم تعميره ألف سنة ؛و"السنة "هي العام ؛والمراد بها هنا السنة الهلالية .لا الشمسية .لأن الكلمات إذا أطلقت تحمل على الاصطلاح الشرعي ؛وقد قال الله تعالى:{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} [ التوبة: 36]؛فالميقات الذي وضع الله للعباد إنما هو بالأشهر الهلالية ،كما قال تعالى:{يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [ البقرة: 189] ،وكما قال تعالى في القمر:{وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} [ يونس: 5] ..
قوله تعالى:{وما هو بمزحزحه من العذاب} أي بدافعه ،ومانعه ؛{أن يعمر}:{أن} ،والفعل بعدها فاعل"زحزح "؛والتقدير: وما هو بمزحزحه تعميره ؛لأن"مزحزح "اسم فاعل يعمل عمل فعله ؛والمعنى أنه لو عُمِّر ألف سنة ،أو أكثر وهو مقيم على معصية الله تعالى فإن ذلك لن يزحزحه من العذاب ؛بل إن الإنسان إذا ازداد عمره وهو في معصية الله ازداد عذابه ؛ولهذا جاء في الحديث:"شرُّكم من طال عمره ،وساء عمله "{[125]} .
قوله تعالى:{والله بصير بما يعملون}:{بصير} هنا بمعنى عليم ؛أي أنه جَلَّ وعلا عليم بكل ما يعملونه في السر ،والعلانية من عمل صالح ،وعمل سيء ..
/خ96