{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاس عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أحرص النّاس على حياة ،مهما كانت ذليلة أو غير مسؤولة ،هؤلاء الذين يعتبرون الحياة الدنيا نهاية المطاف والفرصة الأخيرة للاستمتاع ،إنهم لا يحرصون على هذه الحياة كما يحرص عليها اليهود{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} ليبتعد عن أشباح الجريمة والعقاب التي تلاحقه في يقظته ومنامه ،ولكن ما فائدة الألف سنة من العمر لو عُمّر ألف سنة ؟!إنَّ النتيجة الحاسمة ستكون أمامه{ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} لأنه سيلتقي بالعذاب وجهاً لوجه على أساس ما جنته يداه{ وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .
الدروس والإيحاءاتالنماذج المعاصرة:
أمّا ما نستوحيه من هذا الفصل من السورة ،فهو أن نتابع هذا التاريخ من خلال النماذج الحيّة الموجودة في الحاضر التي تواجه الدعاة إلى اللّه بالتكذيب تارةً ،وبالسجن أخرى ،وبالقتل في بعض الحالات ،وذلك لعدم انسجام شعارات الدعوة الإسلامية الحقّة مع أهوائهم وأطماعهم وامتيازاتهم ،في الوقت الذي نجد هذه النماذج تحمل مع شعاراتها الكثير من كلمات الإصلاح والخير والإيمان بالرسالات السَّماوية ...
وقد نجد كثيراً من ظلال هذه الصورة في بعض هؤلاء الذين كانوا ينتقدون الأسلوب التقليدي للعمل الإسلامي في أساليب العاملين من التقليديين ،بحجة أنها لا تحقّق للإنسان أهدافه في الحياة العملية الكريمة ،التي تبحث عن التنظيم الواسع الدقيق لمطامحها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ،فلا بُدَّ للإسلام من أن يتحرّك في هذا الاتجاه بعقلية جديدة وأسلوب جديد .فلمّا تحرّكت المسيرة الإسلامية الواعية لتقدّم الإسلام للنّاس في صورته الشاملة الكاملة ،بالأسلوب الذي لا يشعرون معه بوجود فراغ في أيّ جانب من الجوانب ،وقفوا أمامها بالعنف والتعسف والجحود والنكران ..إنهم يشبهون كثيراً اليهود الذين جاءهم كتاب مصدّق لما معهم ،فلما جاءهم ما عرفوا كفروا ،على الرغم من أنهم كانوا يستفتحون به على الكافرين .
وقد نجد أمامنا صورة اليهود الذين يكفرون بما أنزل اللّه بغياً ،وذلك في صورة هؤلاء الذين يرفضون العمل لأنهم لا يؤمنون به إلاَّ إذا كانوا على قمّته ،ولا يتفاعلون معه إلاَّ إذا جاء من طريقهم ،فليسوا مستعدين للإيمان إذا كان من وحي الآخرين .إنهم الأنانيون الذين لا يؤمنون بالدعوة إلاَّ إذا كانت تحقّق لهم امتيازاتهم الدنيوية .ثُمَّ تمتد الصورة في حياتنا لتكشف لنا عن هؤلاء الذين يدعون إلى الإسلام في عقيدته وشريعته ،فيبادرون إلى طرح الدعوات المنحرفة التي تلبس لبوس الكفر تارة ولبوس الإسلام أخرى ،ويقولون إننا نؤمن بما لدينا من مبادىء وأفكار ،من دون أن يكلّفوا أنفسهم الدخول في حوار جدي في ما يقدَّم إليهم من أفكار الإسلام ومفاهيمه ،ليتعرفوا من ذلك كيف يستطيع الإسلام أن يحقّق لهم الشعارات التي يرفعونها بأفضل صورة وأروع أسلوب .إنها الصورة نفسها التي يقدّمها القرآن لهؤلاء الذين يقولون:{ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ} مع تبديل في المواقع وفي تفاصيل المنظر .
إنَّ قيمة التاريخ القرآني تتمثّل في ما يقدّمه لنا من نماذج حيّة متحرّكة لا تتجمد في زوايا التاريخ ،بل تظلّ تحمل للحاضر والمستقبل الغنى والامتداد في ما يواجهه الإنسان في مراحل تطوّره من مظاهر الانحراف والاستقامة والكفر والإيمان ...وتلك هي مهمّة القارىء للقرآن والدارس له ؛أن لا يظل يدور حول الصورة القرآنية للإنسان في خطوات التاريخ ،بل يحاول أن يرصد من خلالها الصور القادمة في حركة المستقبل ،ليعطي الحياة للآية في وعيه وفي وعي الآخرين .