وبعد ذلك التحدي من النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه ، كان الوصف الحقيقي لبني إسرائيل بالنسبة للموت والحياة الآخرة ، وأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، ولا يؤمنون بأن لهم جزاء محمودا ، وأنه يرتقبهم خير ؛ ولذا تمسكوا بالحياة الدنيا ؛ لأن العصاة يظنون أنها الحياة وحدها ، ولا يرجون خيرا لأنفسهم المادية في لقاء الله تعالى ، فقال تعالت كلماته:{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا} .
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الحكم بأنهم أحرص الناس على حياة بالقسم المؤكد باللام ونون التوكيد الثقيلة ، وذكر سبحانه وتعالى "حياة"في قوله تعالى:{ على حياة} لتعميم معنى الحياة ، فهم يحرصون على حياة أيا كانت صورتها ، سواء كانت حياة ذل أم كانت حياة عز ، وسواء كانت حياة استبداد أم كانت حياة حرية ، وسواء أكانت تحكمها الفضيلة أم كانت تحكمها الرذيلة ، إنهم يحرصون على الحياة ذاتها من غير نظر إلى وصفها سواء أكانت مقيتة في ذاتها ، أم كانت بكرامة من غير مهانة . وإن هذا يدل على كمال الحرص .
قال تعالى:{ ومن الذين أشركوا} أي منهم من هم أحرص على حياة أيا كانت من الناس جميعا ، ومن الذين أشركوا ، وهم الوثنيون ، وخصوا بالذكر ، لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، وأولئك اليهود أهل كتاب ويؤمنون به في الجملة ، ولكنهم مذنبون تحيط بهم خطاياهم من كل ناحية .
وهم أحرص من المشركين على الحياة ؛ لأنهم يريدون الحياة على أية صفة عزيزة كريمة أو ذليلة ، أما المشركون من العرب فإنهم لا يريدونها إلا عزيزة لا ذلة فيها ، وشاعرهم الجاهلي يقول:
لا تسقني ماء الحياة بذلة*** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم*** وجهنم بالعز أطيب منزل
ولذلك كانوا أحرص على حياة ، والمشركون يحرصون على حياة عزيزة كريمة ، وإن كانوا لا يؤمنون ببعث ولا نشور ، ولا حساب ولا عقاب ، ويصور الله سبحانه وتعالى حرصهم على الحياة بقوله تعالت كلماته:{ يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} يود هنا بمعنى:يتمنى أحدهم ، أي أحد اليهود ، لو يعمر ألف سنة . ولو هنا مصدرية وهي التي تجيء بعد التمني كقوله تعالى:{ ودوا لو تدهن فيدهنون ( 9 )} [ القلم] فهنا "لو"مع الفعل بعدها مصدر غير أنها لا تنصب ( مثل أن ) . وذكر ألف عام لأنه أكبر عدد في زعمهم . .
طلب أعرابي عطاء من حاكم من حكام بني أمية ، فأعطاه ألفا ، فقال له قائل:لو طلبت أكثر من ألف لأعطاك ، فقال:ولو كنت أعلم أن فوق الألف عدد لطلبته ، فالألف كناية على أكبر عدد .
ومع أنهم يودون الحياة إلى أقصى أمد ، ألفا أو أكثر ، فإن العذاب ملاقيهم ،{ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم . . . ( 8 )} [ الجمعة] بالعذاب الذي يستقبلكم ؛ ولذا قال تعالى:{ وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} الزحزحة الإبعاد أو الإزالة ، وهي تدل على المعاناة في الإبعاد والإخراج من المكان الذي حل فيه كقوله تعالى:{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . . . ( 185 )} [ آل عمران] .
و"ما"في قوله:{ وما هو بمزحزحه من العذاب} النافية ، والباء دالة على استغراق النفي ، وهي زائدة في الإعراب لها دلالة في المعنى ، والضمير "هو"يعود على الأحد الذي يود أن لو يعمر ألف عام أو أكبر عدد ممكن ، والمعنى على هذا التخريج:وما هو ؛ أي هذا الشخص بمبعده ولو بمعاناة ومعالجة عن العذاب تعميره ، فالمصدر المكون من{ أن يعمر} فاعل لمزحزحه ، وقد أكد سبحانه وتعالى النفي بإعادة الضمير لتأكيد النفي ، وبالباء ، وبكلمة مزحزح .
وما ذلك النفي المؤكد لوجود العذاب مهما طال الزمانإلا لأنه ارتكب من الخطايا ما يستحق ذلك ، والله تعالى عليم بكل شيء ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؛ ولذا ختم الآية بقوله تعالى:{ والله بصير بما يعملون} والله ذو الجلال والإكرام القادر القاهر الفاعل المختار بصير أي عالم علم من يبصر على مثال ما به الناس ، بما يعملونه من شرور وآثام وجحود بآيات الله تعالى في ماضيهم وحاضرهم ، ومنزل من العذاب بمقدار ما يستحقون . ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .