ولقد قال سبحانه وتعالى حاكما على حالهم بأنهم في ذات أنفسهم وفي مداركهم يعلمون مآثمهم ، ويعلمون كذبهم ؛ ولذلك ليست الجنة لهم ، ولذا لا يتمنون الموت ، فقال تعالى:{ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم} نفى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك التمني نفيا مؤبدا ، وأكد ذلك النفي ب"لن"الدالة على النفي المؤبد ، وبقوله سبحانه وتعالى:{ أبدا} وبذكر السبب ألا وهو ما قدمت أيديهم ، ومعنى ذلك أنهم كاذبون في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم كاذبون في قولهم:{ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . . . ( 80 )} [ البقرة] .
وإنهم يعلمون ما قدموا من كفر ، وما قدمه أسلافهم ، ولم ينكروه عليهم من اتخاذ العجل ، ومن كفر بالنعم التي أنعم الله عليهم وكفروا بها .
وقوله:{ بما قدمت أيديهم} الباء للسببية ، والمراد ما قدموه هم بأنفسهم ، من كفر قلوبهم ، وجحودهم بآيات الله تعالى ، واعتدائهم في يوم السبت ، وتأييدهم لأسلافهم في ذلك ، ومن كفرهم ألا يجاب الذي جاء مصدقا لما معهم ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا به ، ولكن لماذا عبر بأيديهم ، دون أنفسهم ؟ ونقول:
أولا – يجوز ذلك تعبيرا عن الكل باسم الجزء ، وإن ذلك الجزء أظهر الأجزاء في العمل ، فهو الذي به البطش والاعتداء ، وارتكاب المآثم الجماعية .
وثانيا – فيه إشارة إلى الناحية الحسية فيهم ، فهم أيد باطشة آثمة ، وليس لهم قلوب مدركة عالمة .
ولقد سجل الله تعالى عليهم الظلم ، فقال تعالى:{ والله عليم بالظالمين} وقد صدر الله سبحانه وتعالى الحكم بلفظ الجلالة تربية للمهابة ، ولبيان أنهم مأخوذون والله القادر القاهر هو الذي يأخذهم بظلمهم ، وبين عظيم علمه ، ودقة علمه ، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وأظهر في موضع الإضمار فلم يقل سبحانه وتعالى عليم بهم وبما قدمت أيديهم بل قال:{ عليم بالظالمين} ؛ ليسجل عليهم وصف ظلمهم ، وأنهم معاقبون بهذا الظلم الذي هو كالسجية لهم .
ولقد قال الله تعالى في هذا المعنى ، وهو طلب تمني الموت ، وامتناعهم في سورة الجمعة:{ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ( 6 ) ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ( 7 )} [ الجمعة] والفرق بين النصين ، وإن كان كلاهما في مرتبة من البيان يعجز عنه البشر ، في أمرين:
الأمر الأول – أن الشرط في الآية الكريمة التي تتصدى لتعرف معناها شرط كبير ، وهو أن تكون لهم الدار الآخرة من دون الناس ، فالشرط يتضمن الخلوص لهم وقصرها ، ولن يتمنوا ذلك فكان النفي بلن ، والشرط خال من معنى زعمهم .
الثاني- أن الآية الثانية كان الشرط الزعم بأنهم من أولياء الله من دون الناس ، فكان النفي ب"لا"، وهو دونه ؛ فكان النفي ب"لا"لا ب"لن"على مقدار الشرط ، وكذلك يصرف الله الآيات في كتابه الحكيم .