كان السبب في غرورهم ، واستعلائهم الفاسد أنهم بتوالي نعم الله عليهم حسبوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، ولذلك قالوا:{ لن تمسنا النار إلا أياما معدودة . . . ( 80 )} [ البقرة] وقد تلونا ذلك من قبل .
وقد دلاهم الشيطان بغرور فكانوا يحسبون ذلك ، ويدعون في ظاهر قولهم أنهم مؤمنون ، ويواجهون النبي صلى الله عليه وسلم بكفرهم به فأمر الله تعالى نبيه الذي يواجهونه بذلك الكفر أن يتحداهم ليكشف أمرهم بأن يتمنوا الموت قال تعالى:{ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إن كانت الدار الآخرة التي تكون عند الله علام الغيوب ولا سلطان لأحد سواه ، خالصة لكم من دون الناس ، أي أنكم في منزلة والناس دونكم ، ولا تكون إلا لكم ؛ لأن غيركم من الناس – سواء كانوا أتباع محمد أم لا – هم دونكم لا يبلغون منزلتكم بل أنتم وحدكم الذين تنالونها ، إن كانت هذه الحياة الآخرة لكم خالصة فتمنوا الموت الذي هو الطريق إليها إن كنتم صادقين في زعمكم ؛ لأن من آمن بأنه المختص بنعمة تمنى الوصول ، أن يسرع في الذهاب إليها ، وإنها جنات ونعيم مقيم ، فتمنوا الموت الذي هو الطريق الوحيد إليها ، إن كنتم مؤمنين إيمان صدق وإذعان بما تدعون .
وهنا إشارة بيانية يحسن التنبيه إليها:
الأولى:في كلمة{ لكم} فيها اللام المفيدة للملكية أو الاختصاص ، وقد ابتدأ بها بيانا لدعمهم ، ولذلك جاء بعدها خالصة لكم من دون الناس .
الثانية:الإشارة إلى أن الدار الآخرة هي عند الله تعالى مالك يوم الدين ، وهو الذي تدعون أنكم أبناؤه وأحباؤه ومع ذلك تكفرون به وتتخذون العجل تشركون وتعبدونه .
الثالثة:الإشارة إلى أنهم ليسوا صادقين ، بل هم كاذبون ؛ ولذلك كانت أداة التعليق إن في قوله:{ إن كنتم صادقين} ولهذا نفى الله سبحانه أن يتمنوه .
تنبيه:يلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه بأن يتولى الرد عليهم في قوله تعالى:{ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا . . . ( 90 )} [ البقرة] وقوله تعالى:{ قل بئسما يأمركم به إيمانكم . . . ( 93 )} [ البقرة] وفي قوله تعالى:{ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله} .
لم يتول الله تعالى الرد والجدل معهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى الجدل معهم فما الحكمة في ذلك ؟ ونقول ما تصل إليه مداركنا – والله هو الحكيم العليم – إن مجادلتهم التي فيها التحدي كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فناسب أن يتولى بأمر الله تعالى الرد هو عليه الصلاة والسلام ؛ ولأن مقام الله تعالى أعلى من أن ينزل لمجادلة الكافرين الظالمين لأنفسهم .