هذه حجة عليهم بطبيعة الإيمان وأثره في عمل المؤمن وتليها حجة أخرى تتعلق بفائدة الإيمان ومثوبته في الحياة الأخرى ، وهي قوله عز وجل:{ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} .المراد من الدار الآخرة ثوابها ونعيمها ، لأن حال الإنسان فيه لا يخلو من أحد الأمرين – المثوبة بالنعيم المقيم ، والعقوبة بالعذاب الأليم ، واستغنى عن التصريح بالنعيم أو الثواب بقوله ( لكم ) فإنه يشعر بالمحذوف .وإنما أوجز هنا في خطاب اليهود لأنه يحكي عن شيء يعرفونه في أنفسهم ، وقد أوضح المراد بقوله{ خالصة من دون الناس} والخالصة هي السالمة من الشوائب .
( قال الأستاذ الإمام ) فسر مفسرنا ( الجلال ) الخالصة بالخاصة وقالوا إنه استعمال لم يعهد في الكلام الفصيح ، والتخصيص مفهوم من قوله{ من دون الناس} يقول إن صحت دعواكم وصدق قولكم إنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وأنكم شعب الله المختار فلن تمسكم الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم ، الذي لا منازع لكم فيه ولا مزاحم ، وإن لم تتمنوا الموت فما أنتم بصادقين ، إذ لا يعقل أن يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء عليها .
والتمني هو ارتياح النفس وتشوفها إلى الشيء توده وتحب المصير إليه .وروي عن ابن عباس تفسير التمني بالسؤال والطلب ، وهو غير معروف عن غيره من العرب .ولعله فسره باللازم ، فإنه من تمنى شيئا طلبه بالقول أو الفعل أو بهما .وقد روي عن كثير من الصحابة عليهم رضوان الله تمني الموت عند القتال وبعد القتال يعبرون بألسنتهم عما في نفوسهم ، وما هو إلا صدق الإيمان بما أعد الله للمؤمنين في الدار الآخرة .
( أقول ) تفسير التمني بلازمه القولي كما نقل عن ابن عباس أو العملي كالتعرض للقتل في سبيل الإيمان كما نقل عن غيره يدفع إيراد من يقول:إذا كان المراد بالتمني تمنى النفس فلا يظهر صدق قوله تعالى في الآية التي بعد هذه الآية{ ولن يتمنوه} وقد ظهر صدقها على الوجه الأول فلم يتمن أحد من المخاطبين الموت ، وقد ورد أنهم لو تمنوا الموت لماتوا رواه البخاري:وما قاله الأستاذ الإمام في تفسير التمني بحقيقته يدفع كل إيراد .فقد قال:إن الكلام حجة على مدعى الإيمان واستحقاق ما أعده الله لأهله في الآخرة تقنعهم في أنفسهم بأنهم إما صادقون في دعواهم وذلك إذا كانوا يتمنون في أنفسهم الموت والوصول إلى الدار الآخرة ويبذلون أرواحهم في سبيل الله بارتياح إذا كان حفظ الحق يقتضي بذلها ، وإما كاذبون فيها ، وذلك إذا كانوا شديدي الحرص على هذه الحياة .وليس المراد به الحجة الإلزامية أمام الناس .ولذلك كانت العبرة في الآية عامة فهي واردة في سياق الاحتجاج على اليهود ويجب على المسلمين أن يتخذوها ميزانا يزنون به دعواهم اليقين في الإيمان والقيام بحقوقه لأن الله أنزلها لذلك .