ثم ذكرهم هنا أيضا بأخذ الميثاق ورفع الطور كما ذكرهم به في آية تقدمت ، وقد قال هناك{ خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه} وقال هنا{ خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا} وأمرهم في تلك بالحفظ وأمرهم في هذه بالفهم والطاعة .وقلنا في تفسير ( واذكروا ) إن المراد الحث به على العمل فالعبارتان تتلاقيان في المعنى والمراد .
وفي اختلاف النظم والأسلوب حجة على الذين توهموا أن إعجاز القرآن في البلاغة إنما هو في السبق إلى العبارة التي يتأدى بها المعنى على أكمل الوجوه الممكنة في نظم الكلمات العربية .رأى هؤلاء أن المعنى يفيد علما بشيء ما له كلمات في اللغة تؤديه بوجه من النظم وأن الكلمات والوجوه محدودة فمن سبق إلى أتمها أداء وأبلغها تأثيرا كان كالسابق إلى انتقاء أكرم جوهرة من طائفة من الجواهر أمامه أو إلى أنفس عقد وأحسنه نظما من عقود عرضت عليه .مثال ذلك قوله تعالى:{ 40:28 وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} قال علماء هذا الشأن إنه يتألف من هذه الكلمات عشرة ضروب من النظم بالتقديم والتأخير ، ما من ضرب منها إلا وهو منتقد بالخطل أو إيهام خلاف المراد أو الخطأ في الإعراب إلا نظم الآية فهو الذي يؤدي المعنى على أكمل الوجوه ولا يتأتى نظم آخر يؤدي مؤداه .
وزعم بعض الناس أن هذا الإعجاز ليس إلهيا .
لو أخذ ما قالوه مسلما على إطلاقه لكان لنا أن نقول إنه ليس في قدرة أحد من البشر أن يأتي بكلام طويل يتجلى له في كل جملة منه جميع الكلمات التي تدخل في تأدية المعنى المراد له وجميع ضروب النظم ووجوه الأساليب الممكنة في ترتيب تلك الكلمات وتأليفها فيختار الأحسن الأبلغ منها .وإذا لم يكن هذا في قدرة البشر كما هو ظاهر فلا بد أن يكون من جاء به مؤيدا بعناية من الله تعالى .على أننا لا نسلم بما قالوه على إطلاقه فإنه لا يتجه إلا في ألفاظ معينة كألفاظ آية{ وقال رجل مؤمن من آل فرعون} الخ وإذا نظرنا إلى المعاني لا سيما الكلية نراها تتجلى في صور كثيرة من النظم الذي تختلف ألفاظه .وأمامنا الآن معنى الآية التي نفسرها وهو أن الله أخذ العهد على بني إسرائيل بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأن يعملوا بشريعته ووصاياه وكان أخذ هذا العهد في موقف رهبة وخشوع يعين على أخذه بالجد والعزيمة إذ كان الجبل مرفوعا فوقهم بصفة لم يعهدوها حتى ظنوا أنه يريد أن يقع بهم ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوا هذا الميثاق وتركوا العمل به وعبدوا العجل الذي صاغوه من حليهم بأيديهم عن حب متمكن من النفس ، وغالب على العقل والحس ، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في كتابه غير مرة ولكن بعبارات مختلفة كالآية التي تقدمت وذكر هناك أنهم تولوا عن الميثاق بعد الأمر حفظه والعمل به رجاء التقوى ، وكآية الأعراف{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} وتقدمت الإشارة إليها هناك وكلاهما غاية في البلاغة .
وذكره هنا بنظم آخر تنتهي إليه البلاغة في سياق آخر فقال{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا} ثم التفت عن خطاب الحاضرين إلى الحكاية عن الغابرين فقال{ قالوا سمعنا وعصينا} أي إنهم قبلوا الميثاق وفهموه ولكنهم لم يعملوا به بل خالفوه تعنتا وتأولا ولبس المراد أنهم نطقوا بهاتين الكلمتين ( سمعنا وعصينا ) بل المراد أنهم بمثابة من قال ذلك ، ومثل هذا التجوز معروف في عهد العرب وفي هذا العهد – يعبرون عن حال الإنسان وغيره بقول يحكيه عن نفسه حتى حكى مثل ذلك عن الحيوانات والطيور وعن الجمادات أيضا وهو أسلوب أظن أنه يوجد في لغة أو في اللغات الراقية فقط .ثم ذكر أقبح أمثلة هذا العصيان بعبارة مدهشة في بلاغتها فقال{ وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} هذه الاستعارة من فرائد الاستعارات يتمثل بها عند ذكر بلاغة القرآن .وإشراب الشيء الشيء مخالطته إياه وامتزاجه به ، يقال بياض مشرب بحمرة ، أو هو من الشرب كأن الشيء المحبوب شراب يساغ فهو يسري في قلب المحب ويمازجه كما يسري الشراب العذب البارد في لهاته .وقد قدر الأكثرون هنا مضافا محذوفا ، فقالوا المراد"حب العجل "وذهب بعض الجامدين على الظواهر إلى أن المراد بالشرب هنا حقيقته .وزعموا أن موسى لما سحق العجل وذراه في اليم طفقوا يشربون المسحوق مع الماء .وغفل صاحب هذا الزعم عن قوله تعالى{ في قلوبهم} والشراب الحقيقي لا يكون في القلب .والشرب غير الإشراب .ولبعض المفسرين مزاعم وقصص في العجل لا يدل عليها وحي منزل ، ولا تاريخ صحيح ينقل ، والباء في قوله ( بكفرهم ) للسببية أي سبب هذا الحب الشديد لعبادة العجل هو ما كانوا عليه من الوثنية في مصر ، فقد رسخ الكفر في قلوبهم بطول الزمن وورثه الأبناء عن الآباء .
وأما السياق الذي وردت فيه هذه الآية بهذا النظم والأسلوب المخالفين لأسلوب تلك الآية مع الاتحاد في المعنى فهو إقامة الحجة على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ورد زعمهم أنهم مؤمنون بشريعة لا يطالبهم الله بالإيمان بغيرها كما قلنا في التي قبلها ، ولذلك ختم الآية بقوله تعالى مخاطبا للنبي عليه الصلاة والسلام{ قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} أي إن صح زعمكم أنكم مؤمنون بشريعة – والإيمان الحقيقي العمل بما له من السلطان على الإرادة – فبئسما يأمركم به ذلك الإيمان من الأعمال التي منها عبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق .لكن هذا الزعم مشكوك فيه بل يصح القطع بعدمه ، بدليل الأعمال التي يستحيل أن تكون أثرا له .ولا ينسى القارئ ما تقدم من ربط الإيمان بالعمل الصالح في تفسيره قوله تعالى{ بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} الآية .