{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ( البقرة:93 )
التفسير:
قوله تعالى:{وإذ أخذنا ميثاقكم}:{إذ} تأتي في القرآن كثيراً ؛والمعربون يعربونها بأنها مفعول لفعل محذوف ؛تقديره: اذكر ؛وإذا كان الخطاب لأكثر من واحد يقدر: اذكروا ،أي اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم ؛و"الميثاق ": العهد ؛وسمي العهد ميثاقاً ؛لأنه يتوثق به ..
قوله تعالى:{ورفعنا فوقكم الطور} وهو الجبل المعروف ؛رفعه الله عزّ وجلّ على رؤوسهم تهديداً لهم ؛فجعلوا يشاهدونه فوقهم كأنه ظلة ؛فسجدوا خوفاً من الله عزّ وجلّ ،وجعلوا ينظرون إلى الجبل وهم يتضرعون إلى الله سبحانه وتعالى بكشف كربتهم ؛ولهذا ذكر بعض أهل العلم عن اليهود أنهم يرون أن أفضل سجدة يسجدون لله بها أن يسجدوا وقد أداروا وجوههم إلى السماء ؛يقولون: هذه السجدة أنجانا الله بها ؛فهي أشرف سجدة عندنا ..
قوله تعالى:{خذوا} فعل أمر ؛وهو في محل نصب مقولاً لقول محذوف .أي: قلنا: خذوا .{ما أتيناكم} أي ما أعطيناكم ؛والمراد به التوراة
{بقوة} أي بجدٍّ ،ونشاط ؛فالجد: العزيمة الثابتة ؛والنشاط: القوة في التنفيذ ؛{واسمعوا} أي سماع قبول ،واستجابة ؛فأمروا بأن يأخذوا بالتوراة بقوة ،وأن يسمعوا ،ويستجيبوا ،وينقادوا ؛وكان الجواب:{قالوا سمعنا} أي بآذاننا ؛{وعصينا} أي بأفعالنا ؛فما سمعوا السمع الذي طُلب منهم ؛ولكنهم استكبروا عنه ؛وظاهر الآية الكريمة أنهم قالوا ذلك لفظاً:{سمعنا وعصينا}؛وقال بعضهم: قالوا:{سمعنا} بألسنتهم ،وعصوا بأفعالهم ؛فيكون التعبير بالعصيان هو عبارة عن أفعالهم ،وأنهم لم يقولوا بألسنتهم:{وعصينا}؛وهذا ضعيف ؛لأن الواجب حمل اللفظ على ظاهره حتى يقوم دليل صحيح على أنه غير مراد ،ولأنه لا يمتنع أن يقولوا:"سمعنا وعصينا "بألسنتهم وهم الذين قالوا لموسى:{لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [ البقرة: 55]؛فالذين تجرأوا أن يقولوا:{لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} يتجرءون أن يقولوا:{سمعنا وعصينا} بألسنتهم ؛وكأن الذين قالوا: إن المراد بالمعصية هنا فعل المعصية ؛وليس معناه أنهم قالوا بألسنتهم:{وعصينا} كأنهم قالوا: إنهم التزموا بهذا والجبل فوق رؤوسهم ؛ومن كان هذه حاله لا يمكن أن يقول:"سمعنا ،وعصينا "والجبل فوقه ؛ويمكن الجواب عن هذا بأنهم قالوا ذلك بعد أن فُرِّج عنهم ؛و "العصيان ": هو الخروج عن الطاعة بترك المأمور ،أو فعل المحظور ؛فمن ترك الجماعة وهي واجبة عليه فهو عاصٍ ؛ومن زنى ،أو سرق ،أو شرب الخمر فهو أيضاً عاصٍ لله .ورسوله ..
قوله تعالى:{وأُشربوا في قلوبهم العجل}: قال بعضهم: إنه على تقدير مضاف ؛والتقدير: أشربوا في قلوبهم حب العجل ؛لأن العجل نفسه لا يمكن أن يشرب في القلب ؛ومعنى{أشربوا}: أنه جُعل هذا الحب كأنه ماء سقي به القلب ؛إذاً امتزج بالقلب كما يمتزج الماء بالمدر إذا أشرب إياه ؛والمدر هو الطين اليابس ؛فهذا القلب أشرب فيه حب العجل ،ولكن عبر بالعجل عن حبه ؛لأنه أبلغ ؛فكأن نفس العجل دخل في قلوبهم ؛والذي أشرب هذا في قلوبهم هو الله سبحانه وتعالى ؛ولكن من بلاغة القرآن أن ما يكرهه الله يعبر عنه غالباً بالبناء لما لم يسم فاعله ؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"والشر ليس إليك "{[122]} ،وقال الله تعالى عن الجن:{وأنَّا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} [ الجن: 10]؛ففي الشر قالوا:{أريد} ،ولم ينسبوه إلى الله ؛أما الرشد فنسبوه إلى الله عزّ وجلّ ..
قوله تعالى:{بكفرهم}: الباء هنا للسببية ؛أي بسبب كفرهم بالله السابق على عبادة العجل ؛لأنهم قد نووا الإثم قبل أن يقعوا فيه ؛فصاروا كفاراً به ،ثم أشربوا في قلوبهم العجل حتى صاروا لا يمكن أن يتحولوا عنه: قال لهم هارون صلى الله عليه وسلم{يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري} [ طه: 90]؛ولكن كان جوابهم لهارون:{لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [ طه: 91]؛فأصروا ؛لأنهم أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ..
قوله تعالى:{قل}: يخاطب الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أو يخاطب كل من يصح توجيه الخطاب إليه .أي قل أيها النبي ؛أو قل أيها المخاطب ؛{بئسما يأمركم به إيمانكم}:"بئس "فعل ماض يراد به إنشاء الذم ؛و"ما "نكرة مبنية على السكون في محل نصب تمييز ،يعني: بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم عبادةُ العجل ؛يعني: إذا كان عبادة العجل هو مقتضى إيمانكم فإن إيمانكم قد أمركم بأمر قبيح ؛يعني: أين إيمانكم وأنتم قد أشرب في قلوبكم العجل ؟!وأن هذا الإيمان الذي زعمتموه هو الذي حبب إليكم عبادة العجل ،وعبدتموه ..
قوله تعالى:{إن كنتم مؤمنين} أي صادقين في دعوى الإيمان ؛و{إن} شرطية ،والمقصود بها التحدي ؛يعني: إن كنتم مؤمنين حقيقة فكيف يأمركم إيمانكم بهذا العمل القبيح !!!.
الفوائد: .
. 1 من فوائد الآية: أن الله تعالى أخذ الميثاق على بني إسرائيل بالإيمان ؛لقوله تعالى:{وإذ أخذنا ميثاقكم ...} إلخ ..
. 2ومنها: أن بني إسرائيل ما آمنوا إلا عن كره ؛لأنهم لم يؤمنوا إلا حين رفع فوقهم الطور ..
. 3 ومنها: بيان قدرة الله عزّ وجلّ ..
. 4 ومنها: أن أمر الكون كله بيد الله عزّ وجلّ ،وأنه سبحانه وتعالى قادر على خرق العادات ؛لقوله تعالى:{ورفعنا فوقكم الطور ..
. 5 ومنها: وجوب تلقي شريعة الله بالقوة دون الكسل والفتور ،لقوله تعالى:{خذوا ما آتيناكم بقوة} ..
. 6 ومنها: بيان عتوّ بني إسرائيل ؛لقوله تعالى:{قالوا سمعنا وعصينا}؛وهذا أبلغ ما يكون في العتوّ ؛لأنه كان يمكن أن يكون العصيان عن جهل ؛لكنهم قالوا:{سمعنا وعصينا} ..
. 7 ومنها: أن السمع نوعان: سمع استجابة ،وسمع إدراك ؛مثال الأول:{خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا}؛ومثال الثاني: ( سمعنا وعصينا )
. 8 ومنها: أن المؤمن حقاً لا يأمره إيمانه بالمعاصي ؛لقوله تعالى:{إن كنتم مؤمنين} يعني إن كنتم مؤمنين حقاً ما اتخذتم العجل إلهاً ..
. 9 ومنها: أن الشر لا يسنده الله تعالى إلى نفسه ؛بل يذكره بصيغة المبني لما لم يُسمَّ فاعله ؛لقوله تعالى:{وأشربوا في قلوبهم}؛ولهذا نظير من القرآن ،كقوله تعالى:{وأنَّا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} [ الجن: 10]؛والنبيصلى الله عليه وسلم يقول:"والشر ليس إليك "{[123]}؛فالشر في المفعول .لا في الفعل ؛الخير والشر كل من خلْق الله عزّ وجلّ ؛لكن الشر بالنسبة لإيجاد الله له هو خير ،وليس بشر ؛لأن الله سبحانه وتعالى ما أوجده إلا لحكمة بالغة ،وغاية محمودة .وإن كان شراً .لكن الشر في المفعولات .أي المخلوقات ؛وأما نفس الفعل فهو ليس بشر ؛أرأيت الرجل يكوي ابنه بالنار .والنار مؤلمة محرقة .لكنه يريد أن يُشفى .فهذا المفعول الواقع من الفاعل شر مؤلم محرق لكن غايته محمودة .وهو شفاء الولد ؛فيكون خيراً باعتبار غايته ..
. 10 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى قد يبتلي العبد ،فيملأ قلبه حباً لما يكرهه الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى: ( وأشربوا في قلوبهم العجل ) .
. 11 ومنها: أن الإيمان الحقيقي لا يحمل صاحبه إلا على طاعة الله ؛لقوله تعالى: ( قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ) .