إن اليهود لا يؤمنون بشيء مهما تكن قوة أدلته ومهما تكن قوة الدعوة إليه . لقد رأينا الآيات الكثيرة التي ذكر الله تعالى أنها بلغت تسعا ، وكلها حسي قاهر ، وفيه نعمة النجاة والرعاية الكاملة حتى ظنوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، ثم بين بعد ذلك قوة الدعوة إلى الحق فقال تعالى:{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا} دعوة إلى الحق الذي قامت أدلته بميثاق أخذه الله تعالى ، وأخذه وقد رفع الجبل فوقهم كأنه ظلة أظلتهم وطالبهم الله تعالى على لسان كليمه أن يأخذوه بقوة أي بجد ، ولا ينحرفوا عنه ، وأن يسمعوا إليه ولا يخالفوه .
اجتمع لهدايتهم قوتان قوة الدليل في الآيات التسع ، وقوة الدعوة في الميثاق الذي أخذ عليهم في حال رفع الجبل فوقهم ودعوتهم إلى سماع الحق ، فهل أجابوا ؟ .
{ قالوا سمعنا وعصينا} هذا ما جاء به القرآن نصا في إجابتهم . وإن ما حكى الله تعالى عنهم من أنهم قالوا:{ سمعنا} تفسر على ظاهرها فإنه كان النداء قويا والجبل مرتفع عليهم ،{ خذوا ما آتيناكم بقوة} أي ما شرعناه لكم من شرائع بجد وعزم ،{ واسمعوا} فإنه لا بد أن يكون الجواب{ سمعنا} ، أما ما حكاه سبحانه من أنهم قالوا:{ وعصينا} فيصح أن تخرج على أنهم قالوها بألسنتهم ، وذلك بعيد يتنافى مع قوة الميثاق وتأكده ومع طلب الأخذ بقوة أي بجد وعزم على التنفيذ ، ولذا نستبعد ذلك الاحتمال لقيام القرائن ضده ، وما نحسب أنهم وصلوا إلى هذه الحال أن ينكثوا بالعهد وقت توثيقه وأن يجاهروا بعصيانه ، والعهد بينهم وبين المنقذ لهم ، والعهد قريب ، ولذلك قرر المفسرون أن كلمة عصينا مجاز عن أفعالهم ، أي أن عصيانهم كان بلسان الفعال لا بلسان المقال ، فهم قالوا سمعنا بالقول وقالوا عصينا بأفعالهم .
ويصح أن نقول:إن عصينا القلبية كانت مقارنة لسمعنا ، أي أنهم قالوا سمعنا ، وقلوبهم جافية معرضة كأنها تنطق بحالهم ، وهو عصينا فكأنهم سمعوا ، وهم على نية العصيان فقلوبهم جافية عن الاتعاظ بما يسمعون .
ولقد كان أوضح المظاهر التي دلت على عصيانهم ، وأنهم سمعوا وعصوا هو عبادتهم العجل ، أو بالتعبير القرآني المنزه الحكيم اتخاذهم ، ولذلك ذكره بعد تسجيل العصيان:{ واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} . بعض علماء اللغة يقولون إن المعنى على حذف المضاف تقديره حب العجل ، وذلك مجاز مشهور يسمى مجاز الحذف فذكر القلوب ، والقلوب لا تشرب العجول قالوا إنه مجاز بالحذف ، والقلوب تنكث فيها المفاسد ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:( تعرض الفتن على القلوب عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ) .
وبعد المتفقهين في اللغة قالوا:لا حاجة إلى تقدير محذوف ؛ لأن أشرب متعلق بالعجل مباشرة ، لأن تعلق الإشراب به ليس مقصورا على المحبة ، بل إنه يتجاوزها إلى العبادة ، وإلى أن تكون صورته في قلوبهم لا تفترق عنها ، ويكون من قبيل أشرب الثوب الصبغة ، أي خالطت أجزاءه ، وتغلغلت فيه ، فالعجل تغلغل في قلوبهم فألفوه وصار جزءا من تفكيرهم ، كما صارت الصبغة جزءا من الثوب ، لا تنفصل عنه ، وهذا نوع من الاستعارة ، فاستعيرت كلمة الإشراب لتغلغل ذكره في قلوبهم كأنه حل حلول الشراب فيها .
وكلمة في قلوبهم قرينة الاستعارة ، وأشرب للبناء للمجهول لكثرة الأسباب الباطلة التي أشربته قلوبهم ، فالشيطان زينه لهم ، وسول لهم عبادته ، وعشرتهم للمصريين الذين كانوا يقدسونه ، والعشرة مستمرة لهم مع مظالمهم ، وضلال نفوسهم كل هذا سهل سريان عبادة العجل إليهم ؛ ولذلك قال بكفرهم ، أي بسبب كفرهم المستكين في نفوسهم ، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقولهم:{ قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم هم الذين واجهوه ( النبي صلى الله عليه وسلم ) بقولهم:{ قالوا نؤمن بما أنزل علينا . . . ( 91 )} [ البقرة] وهذا القرآن الكريم بين ما يدل على أنهم لا يؤمنون بشيء حتى تركوا ما يدعوهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بما عندهم ، وهذه صورة من الإيمان بما عندهم{ بئسما} دالة على ذم ما يأمرهم به إيمانهم الباطل ، وهذا تهكم شديد على حالهم وعلى ما يتصورونه إيمانا بما عندك ، كقوله تعالى حكاية عن قوم شعيب له:{ أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا . . . ( 87 )} [ هود] ، وقوله تعالى:{ إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم في الماضي والحاضر مؤمنين ، وبيان أن إيمانهم موضع شك بل لا إيمان .