المفردات:
الطور: هو الجبل المعروف في شبه جزيرة سيناء .
وأشربوا في قلوبهم: أشرب قلبه كذا أي حل محل الشراب ،كأن الشيء يساغ فهو يسري في القلب المحب ويمازجه كما يسري الشراب العذب البارد في اللهاة ،وحقيقة أشربه كذا: جعله شاربا له .
التفسير:
93- وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا .واذكروا يابني إسرائيل ،إذ أخذنا الميثاق المؤكد عليكم بأن تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ،وأن تعلموا بشرعه ،وكان أخذ الميثاق علبكم في موقف كله رهبة وخشوع وبيان لقدرة الله على عقاب من لم يمتثل إذ رفع فوقكم جبل الطور كأنه ظلة تظللكم ،وظننتم أنه سيقع عليكم ،وطلب منكم حينئذ أن تأخذوا ما آتاكم من الشرع بقوة: بأن تسمعوا سماع تدبر ،وفهم وقبول وتعملوا بما جاءكم فيه من التكاليف بحزم وعزم ،ولكنكم لم تلبثوا أن نقضتم العهد بمجرد أن زال عنكم هذا الموقف .
ومعنى قوله تعالى: خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا .أي قلنا لكم خذوا ما أمرناكم به من التوراة بجد واجتهاد واسمعوا ما تؤمرون به سماع طاعة وتفهم ،ثم حكى سبحانه جوابهم الذي يدل على عنادهم فقال: قالوا سمعنا وعصينا .
أي كانت حالهم في المخالفة مثل حال من قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك .وقال الزمخشري: في الكشاف:
( فإن قلت كيف طابق قوله جوابهم ؟قلت: طابقه من حيث إنه قال لهم اسمعوا ،وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة ،فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة ) ( 222 ) .
وقد اختلف المفسرون: هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا أو أنهم فعلوا فعلا مقام القول فيكون مجازا ؟
قال الفخر الرازي: ( الأكثرون من المفسرين على أنهم قالوا هذا القول حقيقة )
وقال أبو مسلم: وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول ولم يقولوه ،كقوله تعالى: فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين .( فصلت11 ) قال: والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز( 223 ) .
وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم .واختلط حب غبادة العجل بقلوبهم ،تقليدا لسادتهم من الفراعنة: الذين كانوا يعبدونه ويقدسونه ،ولم ينتفعوا بتحرير الله لهم من ذل العبودية والقتل ،حيث شق البحر لهم ونجاهم .
ولهذا انتهزوا فرصة ذهاب موسىعليه السلام لتلقي ألواح التوراة: فأرضوا حبهم لمعبودهم القديم ،وعبدوا صنما على شكل العجل ،صنعه لهم موسى السامرى من حليهم( 224 ) .
وفي تفسير ابن كثير: وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم .
قال قتادة: أشربوا حبه حتى خلص إلى قلوبهم ،وروى أحمد عن أبى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حبك الشيء يعمى ويصم"رواه أبو داود ( 225 ) .
قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين: قل لهم هذا يا محمد: بئس الذي يأمركم به إيمانكم المزعوم بالتوراة من الأعمال التي تقترفونها ،كعبادة العجل وقتل الأنبياء ونقض الميثاق ،وقولكم: سمعنا وعصينا .وإضافة الإيمان إليهم في قولهم: إيمانكم .للإيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة كما ينبئ عنه قوله تعالى: إن كنتم مؤمنين .فإنه قدح في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم من التوراة وإبطال لهذه الدعوى ،وتقرير الإبطال: إن كنتم فيما اقترفتموه من الشرك والمعاصي مؤمنين بها ،عاملين فبها كما ادعيتم ،فبئسما يأمركم به إيمانكم المزعوم بها ،إذ إن الإيمان الصادق بها لا يأمركم بما اقترفتموه من الشرك والمعاصي ،فليس فيها إباحة شيء من ذلك ،وهذا برهان على عدم إيمانكم بها .
قال الطبري: قوله: إن كنتم مؤمنين .أي إن كنتم مصدقين كما زعمتم بما أنزل الله عليكم ،إنما كذبهم الله بذلك لأن التوراة تنهى عن ذلك كله وتأمر بخلافه ،فأخبرهم أن تصديقهم بالتوراة إن كان يأمرهم بذلك ،فبئس الأمر تأمر به ،إنما ذلك نفي من الله تعالى عن التوراة أن تكون تأمر بشيء مما يكرهه الله من أفعالهم ،وأن يكون التصديق بها يدل على شيء من مخالفة أمر الله ،وإعلام منه جل ثناؤهأن الذي يأمر بذلك أهواؤهم ،والذي يحملهم عليه البغي والعدوان( 226 ) .
وقد ذكر الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز ألوانا من الإعجاز البياني والنفسي تنطوي عليها الآيات السابقة في حجاج اليهود .
ففي تفسير الآية( 91 ) من سورة البقرة: وإذا قيل لكم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ...
قال الأستاذ دراز: هذه الآية قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي:
1- مقالة ينصح بها الناصح لليهود: إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقرآن .
2- إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين .
3- الرد على هذا الجواب بركنيه من عدة وجوه .وفي ختام الآية 91: قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين .
يقول الأستاذ دراز:
لقد استوى القرآن إلى الرد على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعلانه ،فأوسعهم تكذيبا وتفنيدا ،وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم ،قد أشربوه في قلوبهم ،ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضا مزمنا ،وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد ماهو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم ،وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل إلى إنكارها ،في جهلهم بالله ،وانتهاكهم لحرمة أنبيائه وتمردهم على أوامره .
قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين .تأمل كيف أن هذا انتقال كانت النفس قد استعدت له في آخر المرحلة السابقة إذ يفهم السامع من تكذيبهم لما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين كتابهم نفسه ،وهل الذي يكذب من يصدقك يبقى مصدقا لك ؟
ثم انظر بعد أن سجل القرآن على بني إسرائيل أفحش الفحش وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس ،وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبيهم على أوامر الله مع حملهم عليها بالآيات الرهيبة .بعد كل ذلك تراه لا يزيد على أن يقول في الأمر: إن هذا ( ظلم ) وفي الثانية ( بئسما ) صنعتم ،أذلك ما تقابل به هذه الشناعات ؟نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا على وجههما ،ولكن أين حدة الألم وحرارة الاندفاع في الانتقام .
بل أين الإقذاع والتشنيع ؟وأين الإسراف والفجور الذي تراه في كلام الناس ،إذا أحفظوا بالنيل من مقامهم .
لله ما أعف هذه الخصومة وما أعز هذا الجناب وأغناه عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين ،وتالله إن هذا الكلام لا يصدر عن نفس بشر( 227 ) .