قوله تعالى:{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدّمت أيديهم والله عليم بالظالمين} .
أخذ الله على بني إسرائيل العهد أن يستقيموا على صراطه ودينه وأن يعملوا بما في التوراة .لكنهم أبوا وتولوا معارضين مدبرين ،كان ذلك بعد أن رأوا الأدلة الحسية على صدق الرسالة وبعد إعلانهم عن التوبة إلى بارئهم والرجوع إلى دينه مرارا حتى تهددهم الله بالجبل إذ رفعه فوق رؤوسهم كأنه ظُلة وأيقنوا أنه ساقط عليهم .ذلك تخويف من الله لبني إسرائيل ،وهو تخويف واقع مشهود أرعب قلوبهم وأرعد فيهم المشاعر والأبدان ؛لكي يصيخوا إلى النذير الذي يغشاهم بالعذاب أو الموت إلا أن يهتدوا ويأخذوا بما في التوراة فينجوا .جاء هذا التهديد مقترنا بقوله سبحانه لهم:{خذوا ما آتاكم بقوة واسمعوا} أي ألزموا أنفسكم التوراة ،واعملوا بما فيها من هداية وتعاليم وذلك{بقوة} أي بجد وعزم واجتهاد .وقوله:{واسمعوا} لا يعني مجرد السمع وحده ولكن الأهم المقصود هو الطاعة .فقد أمرهم أن يلتزموا بالتوراة طائعين مذعنين لله دون ميل أو انثناء أو تردد .
وقوله:{قالوا سمعنا وعصينا} وذلك على سبيل المجاز فقد لا ينطقون ذلك بألسنتهم حقيقة ،وإنما كانت حالهم تنطق به كأنما يقولون سمعنا سماعا مجردا وعصينا أن نعمل بما في الأمر .وقيل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا وقوله:{وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} أي خالط حب العجل قلوبهم فخلُص إلى صميمها خلوصا .وذلك هو الإشراب الذي يداخل القلب مداخلة تستعصي على الفكاك ،وذلك على سبيل الاستعارة التي تتجلى من خلالها الصورة على التمام .وهي صورة القلب الزائغ المتجانف الذي استحوذ عليه حب العجل حتى مرد عليه مرودا شائنا .وفي صدد التعبير بالإشراب يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الفتن تتشربها القلوب تشربا:"تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا ،فأيما القلب أشربها نُكت فيه نكتة سوداء "والنكتة العلامة ،وقوله:{قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} بعد الحديث الكريم عن القلوب المريضة التي أشربت حب العجل يأمر الله نبيه أن يخاطب هؤلاء القوم الفساق خطاب التنديد والذم بأنه بئس هذا الإيمان الفاسد الزائف الذي تنطوي عليه صدوركم ،وبئس الذي يأمركم به هذا الإيمان من سقيم العبادة والتوجه .وهذا الضرب من الإيمان ليس من الحق أو الهداية في شيء وما هو إلا الباطل والضلالة برمتها .