ثم بين حقيقة حالهم في الإخلاد إلى الأرض ، والفناء في حب البقاء وأنهم ليسوا على بينة مما يدعون ، ولا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون ، فقال
{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} كذلك كانوا وكذلك هم الآن .والظاهر من سيرتهم ونظام معيشتهم أنهم كذلك يكونون إلى ما شاء الله وإن كان الظاهر أن الكلام خاص بمن كانوا في عصر التنزيل يحاجهم النبي صلى الله عليه وسلم ويشاغبونه ويجاحدونه ، معتزين بشعبهم مغترين بكتابهم ، بل ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد علماؤهم فقط .ونكر الحياة للتحقير ، كأنه يقول:إنهم شديد الحرص على الحياة وإن كانت في بؤس وشقاء .ثم خص طائفة من الناس بالذكر عرفوا بشدة الحرص على الحياة وتمنى طول البقاء في الدنيا أنهم لا يؤمنون بحياة بعدها فقال{ ومن الذين أشركوا} أي أنهم أحرص الناس من جميع الناس حتى من الذين أشركوا ، ثم بين مثالا من هذا الحرص مستأنفا فقال{ يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} أي يتمنى لو يعمره الله ويبقيه ألف سنة ، أو أكثر ، فإن لفظ الألف عند العرب منتهى أسماء العدد فيعبر به عن المبالغة في الكثرة لأنه يعرف من نفسه أنه مخالف لكتابه ويتوقع سخط الله وعقابه فيرى أن الدنيا على ما فيها من المنغصات خير له من الآخرة وما يتوقعه فيها .قال تعالى{ وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} أي وما تعميره الطويل بمزحزحه أي منحيه ومبعده عن العذاب المعد له ولأمثاله فإنه ميت مهما طال عمره وكل ماله حد فهو منته إليه{ والله بصير بما يعملون} لا تخفى عليه خافية من أمرهم ولو عرفوه حق معرفته لعلموا أن طول العمر لا يخرجهم من قبضته ، ولا ينجيهم من عقوبته ، فإن المرجع إليه ، والأمر كله بيديه .
ومن مباحث اللفظ أن الضمير في قوله ( وما هو ) مبهم يفسره ما بعده كما اختاره الأستاذ الإمام وأكثر المفسرين على أن"ما "حجازية والضمير العائد على ( أحدهم ) اسمها وبمزحزحه خبرها ، والباء زائدة في الإعراب و ( أن يعمر ) فاعل مزحزحه .