{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( 6 ) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ ( 7 ) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( 8 )وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9 ) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ( 10 )} .
في الآيات الثلاث الأولى تشريع لحالة تهمة زوج لزوجته بالزنا ،ولم يكن لديه شهود إلا نفسه فشهادته خمس مرات على الوارد في الآيتين الأولى والثانية تقوم مقام الشهود وتوجب حد الزنا على الزوجة .غير أن هذا الحد يسقط عنها إذا شهدت هي الأخرى بعده خمس شهادات على الوجه الوارد في الآيتين الثالثة والرابعة .
أما الآية الخامسة فإنها تنطوي على تلقين لما في هذا التشريع من حكمة سامية ،وحل حكيم لموقف محرج وإشكال مزعج ،فلولا فضل الله على المسلمين ورحمته ولولا أنه تواب عليم حكيم بهم كان في الموقف إزعاج وإحراج شديدان لهم .
تعليق على الآية
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ 6} .
والآيات الأربع التي بعدها
ولقد رويت في نزول الآيات روايات .منها ما رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس ( أن هلال ابن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سمحاء فقال النبي: البينة أو حد في ظهرك فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟فجعل النبي يقول: البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ،فنزل جبريل بالآيات ،فأرسل النبي إليهما فشهد هلال والنبي يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت ،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك ابن سمحاء ،فجاءت به كذلك .فقال النبي: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن .زاد في رواية: ثم قضى بالولد للمرأة وفرق بين المتلاعنين .ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها ){[1493]}وهناك رواية أخرى تذكر أن سعد ابن عبادة زعيم الأنصار قال لرسول الله حينما نزلت الآية السابقة ( يا رسول الله لو أتيت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ الرجل من حاجته .فقال النبي: يا معشر الأنصار أما تسمعون ما يقول سيدكم .قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج فينا قط إلا عذراء ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها ،قال سعد: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ،والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت ،فما لبثوا قليلا حتى جاء هلال يروي قصته لرسول الله فنزل الوحي بالآيات ) وهناك روايات أخرى فيه أسماء وأحداث أخرى يرويها المفسرون كسبب لنزول الآيات .منها صيغة حديث يرويه الإمام أحمد عن عبد الله قال ( كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد فقال رجل من الأنصار: أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ ،والله لئن أصبحت صحيحا لأسألن رسول الله فسأله ،وأعاد عليه ما قال ثم قال: اللهم احكم ،فنزلت آية اللعان فكان ذلك الرجل أول ما ابتلى بها .ومنها رواية رواها الإمام أحمد كحديث مماثل للرواية السابقة مع ذكر اسم السائل وهو عويمر .ومنها كحديث رواه الحافظ البزار جاء فيه ( إن رسول الله قال لأبي بكر: لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به قال كنت والله فاعلا به شرا .قال: فأنت يا عمر ؟قال كنت والله قاتله ،كنت أقول لعن الله الأعجز فإنه خبيث فنزلت الآيات ){[1494]} .
والروايات تقضي أن تكون الآيات نزلت مستقلة عن سابقتها في حين أنها تبدو معطوفة عليها ،وحلقة من سلسلة مشتركة في الموضوع ،وليس ما يمنع أن تكون نزلت مستقلة وألحقت بالسياق للتناسب الموضوعي كما أنه ليس هناك ما يمنع أن تكون نزلت بعد سابقتها بناء على استفسار أو حادث كما روي ،فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي ،غير أنا نميل إلى القول: إن السلسلة نزلت دفعة واحدة بناء على استفسارات وحوادث وقعت قبلها ؛لأننا نلتمس في الآيات العشر وحدة وانسجاما في النظم مع التشارك في الموضوع .
وهذه الشهادات المتقابلة بين الزوجين تسمى في الاصطلاح الفقهي بالملاعنة أو اللعان .ويترتب عليها التفريق بين الزوجين على ما جاء في حديث البخاري والترمذي ،وقد اختلف الفقهاء في صفة الفرقة ،فذهب أبو حنيفة إلى أنها فرقة طلاق بائن وأن الزوج إذا كذب نفسه جاز له أن ينكحها ثانية ،وذهب الشافعي إلى أنها فرقة أبدية بل يستفاد من أقوال المفسرين أن هذا هو رأي أكثر العلماء{[1495]} ،ومنهم الإمام مالك الذي زاد على ذلك فأوجب إقامة الحد على الزوج إذا كذب نفسه وإلحاق الولد له مع الفرقة الأبدية{[1496]} .
ومع أن المتبادر لنا أن التفريق الأبدي هو الأوجه والمستفاد من حديث ملاعنة هلال فإن رأي أبي حنيفة لا يتناقض معه ؛لأنه فيه صراحة قطعية ،ولا يخلو من جهة أخرى من وجاهة أيضا إذا تحقق شرطه ،وهو تكذيب الزوج لنفسه ؛حيث يكون في ذلك رد لكرامة الزوجة ،وسمعتها غير أن الرأي الأول هو الأوجه .
ولا سيما إذا أخذ برأي الإمام مالك الوجيه ،فأقيم حد القذف على الزوج وألحق به الولد ؛فإن في ذلك ردا أقوى لكرامة الزوجة .والله تعالى أعلم .
واللعان كما هو واضح إجراء قضائي ،وقد جرى على يد النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره وفي مشهد علني ،وينبغي أن يكون كذلك على يد ولي الأمر من بعده أو من ينوب عنه بطبيعة الحال .
وواضح من فحوى الآيات أن اللعان إنما يكون في حالة تعذر إقامة البينة على الزوجة ،وأنه ليس له محل في حالة إمكان ذلك حيث يقام عليها الحد .
والجمهور{[1497]} على أن الزوجة إذا لم تشهد الشهادات الخمس بكذب زوجها أقيم عليها الحد وهذا متسق مع فحوى الآيات .
ولقد اختلفت الأقوال في صدد الزوج الذي يتهم زوجته ثم ينكل عن الشهادة فهناك من قال: إنه يعتبر قاذفا ويستوجب حد القذف وهناك من قال: إنه لا يحد وإنما يحبس حتى يلاعن{[1498]} والرأي الأول هو الأوجه فيما هو المتبادر ومن الغريب أن هناك من قال{[1499]} هذا في صدد الزوجة التي تمتنع عن الشهادة أيضا مع ما في الآيات من دلالة قطعية على أن نجاتها من العذاب أي الحد منوطة بشهاداتها الخمس .
وقد فرض الفقهاء حالة محتملة الوقوع .وهي أن تكون الزوجة المتهمة حاملا ،وأن تكون تهمة الزوج شاملة لنفي الحمل عنه .فقالوا: إن عليه والحالة هذه أن يذكر في شهاداته نفيه للولد عنه ،وحينئذ تذكر الزوجة في شهاداتها إثبات الولد إليه .ويترتب على ذلك عدم نسبة الولد إلى الزوج ونسبته إلى أمه دون أن يعتبر ولد زنا لما هناك من شبهة ،ويحق له أن يرثها وترثه .وهذا مستمد من حديث هلال ومن زيادة وردت في رواية الطبري للحديث مفادها أن ابنها يرثها ،وأن الولد يدعى لها ولا يرمى أي لا يقال له ولد زنا .وفي الموطأ قول للإمام مالك وهو أن ولد اللعان يرث إخوته لأمه أيضا{[1500]} وهذا يتبع ذاك .
هذا ،وظاهر من الآيات أن التشريع الذي احتوته خاص بتوجيه التهمة من الزوج إلى زوجته .وهنا محل تساؤل عن الحكم في حالة تهمة الزوجة لزوجها بالزنا .ولم نطلع على حديث أو قول في ذلك .ومما لا ريب فيه أن هناك فرقا واضحا يترتب عليه نتائج مختلفة بين الحالتين ،ومن ذلك مسألة الأولاد الذين تلدهم المرأة حيث يكونون قد نسبوا زورا لغير أبيهم الحقيقي وورثوا إرثا لا يستحقونه عند الله .ولعل الحكمة في تخصيص التشريع هي بسبب هذا الفرق .
والمتبادر أن تهمة الزوجة لزوجها تكون في حكم القذف العادي .فإذا أثبتت الزوجة الزنا على زوجها بشهود أربعة استوجب حد الزنا وهو الرجم وإذا لم تثبته استوجبت هي حد القذف .
وفي صدد شمول اللعان للعبيد والذميين روى البغوي اجتهادين: واحدا معزوا إلى سعيد ابن المسيب والشافعي ومالك والثوري وقال: إن أكثر أهل العلم أخذوا به ،وهو أن كل من صح يمينه صح لعانه حرا كان أم عبدا ومسلما أم ذميا .
وواحدا معزوا إلى الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أن اللعان لا يجري إلا بين المسلمين حرين غير محدودين فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما .وقد عقب البغوي على ذلك فقال: إن ظاهر الآية حجة لمن قال يجري اللعان بينهما ؛لأن الله لم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره ويتسق هذا مع القول الأول ،وهو ما نراه الأوجه الأسد .والله تعالى أعلم .