مناسبة النزول
نقل الميزان عن تفسير القمي في سبب نزول هذه الآيات أنها نزلت في اللعان ،«فكان سبب ذلك أنه لما رجع رسول الله ( ص ) من غزوة تبوك ،جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني وكان من الأنصار وقال: يا رسول الله إن امرأتي زنى بها شريك بن السحماء ،وهي منه حامل ،فأعرض عنه رسول الله ( ص ) ،فأعاد عليه القول ،فأعرض عنه حتى فعل ذلك أربع مرات .
فدخل رسول الله ( ص ) منزله ،فنزلت عليه آية اللعان ،فخرج رسول الله ( ص ) وصلى بالناس العصر ،وقال لعويمر: ائتني بأهلك ،فقد أنزل الله عز وجل فيكما قرآناً ،فجاء إليها وقال لها: رسول الله يدعوك ،وكانت في شرفٍ من قومها ،فجاء معها جماعة ،فلما دخلت المسجد قال رسول الله ( ص ) لعويمر: تقدم إلى المنبر والتعنا ،فقال: كيف أصنع ؟فقال: تقدّم وقل: أشهد بالله إني لمن الصادقين في ما رميتها به ،فتقدم وقالها ..فقال رسول الله( ص ): أعدها ،فأعادها حتى فعل ذلك أربع مرات ،فقال له في الخامسة: عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين في ما رميتها به ،فقال في الخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين في ما رماها به ،ثم قال رسول الله( ص ): إن اللعنة موجبة إن كنت كاذباً .
ثم قال له: تنحَّ ،فَتَنَحَّى ثم قال لزوجته: تشهدين كما شهد ،وإلا أقمت عليك حدّ الله ،فنظرت في وجوه قومها فقالت: لا أسوِّد هذه الوجوه في هذه العشيّة ،فتقدمت إلى المنبر وقالت: أشهد بالله أن عويمر بن ساعدة من الكاذبين في ما رماني به ،فقال لها رسول الله( ص ): أعيديها فأعادتها ،حتى أعادتها أربع مرات ،فقال لها رسول الله( ص ): العني نفسك في الخامسة إن كان من الصادقين في ما رماك به ،فقالت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين في ما رماها به ،فقال رسول الله( ص ): ويلك إنها موجبة إن كنت كاذبة .ثم قال رسول الله ( ص ) لزوجها: اذهب فلا تحلّ لك أبداً ،قال: يا رسول الله ،فمالي الذي أعطيتها ،قال: إن كنت كاذباً فهو أبعد لك منه ،وإن كنت صادقاً فهو لها بما استحللت من فرجها ..» الحديث .
الملاعنة بين الزوجين
ولعل هذا التشريع جاء من أجل وضع المسألة في نصابها الصحيح ،في مواجهة صعوبة الحالة التي يعيشها البيت الزوجي عند اتهام الزوج لزوجته بالزنى دون أن يملك أيّة وسيلةٍ من وسائل الإثبات الشرعية ،في ما يكون رآه بعينه دون وجود أحدٍ معه ،أو سمعه ممن يطمئن له ،دون أن يكون ذلك كافياً لإقامة الحجة ضد الزوجة ،فكيف يمكن حل المشكلة ،التي قد لا يكون هناك سبيل إلى إثباتها أو نفيها عبر وسائل الإثبات التي تحسم الموضوع وتؤكده أمام الجميع ؟لذلك كان الحلّ الضغط النفسي الخاضع للجانب الإيماني في شخصية كلٍّ من الزوجين ،على أساس ما يمكن أن تثيره فكرة الشهادة من انفعالات في نفس الاثنين ،حيث يمكن أن يشكل ذلك تأكيداً لصدقه ،أو تأكيداً لكلامها في كذبه ،مع الإعلان عن توجيه اللعنة لنفسه إن كان من الكاذبين ،أو توجيهها لنفسها إن كان من الصادقين ..وحيث يمكن أن يستسلم الكاذب منهما للمؤثرات الروحية ويتراجع عن موقفه في بعض مواقع تكرر اللعنة ،ثم في الموقف الحاسم الأخير ،مما يكون الحلّ النهائي الممكن للمسألة ،فإذا لم تحل المشكلة عن هذا الطريق ،فإن النتيجة تكون إغلاق ملف الحديث عنها ،بعد أن أكّد كلٌّ منهما موقفه ،دون الوصول إلى إدانة المتهم ،ما يعني أن كلاًّ منهما برّأ نفسه مما رماه به الآخر ،بحيث لم يبق مجالٌ لاتهام أي منهما شريكه بشيءٍ بعد ذلك ،الأمر الذي يقتضي إنهاء المشكلة في جانبها الكلامي الاتهامي الذي يحكم ساحة الصراع ثم الفراق ،ثم حرمة العلاقة بينهما أبدياً ،لأن حدوث هذا النوع من اللعنة المتبادلة بين الزوجين يجعل الحياة الزوجية غير صالحة للامتداد والاستمرار ...بالتالي فإن كلاًّ منهما يجب أن يذهب إلى حال سبيله حيث يمكن أن يعيش تجربة جديدة ،في علاقةٍ جديدة بإنسانٍ آخر .
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} باتهامهنّ وقذفهنّ بالزنى{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} لأنهم واجهوا الجريمة بشكل مباشر دون حضور أشخاص آخرين يشاركونهم الرؤية ،فهناك طريقة بديلة عن شهادة الأربعة من الشهود الذين يتوقف على شهادتهم الحكم بالزنى ،تستبدل فيها شهادة الأربعة بواحد{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} يكرر فيها التهمة بشكلٍ حاسمٍ مؤكدٍ يشتمل على ما يشبه اليمين{إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في ما يقوله عنها ،وبذلك تكون المسألة مشابهةً لقيام اليمين مقام البيّنة ..