{ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين 10 وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين 11} [ 10-11] .
في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى من يدّعي الإيمان بالله في وقت السعة والعافية حتى إذا تعرض في سبيل إيمانه لأذى الناس جعل أذى الناس وعذاب الله الموعود للكافرين والمنافقين في مستوى واحد فعمد إلى المداراة والمراءاة ليتقي عذاب الناس وآذاهم .ثم إذا فتح الله على المؤمنين ونصرهم وفرج عنهم سارع إلى توثيق رابطته بهم وتوكيد دعواه بأنه منهم .وقد تساءلت نهاية الآية في معرض الإنكار والتنديد عما إذا كان أمثال هؤلاء لا يعرفون أن الله تعالى هو الأعلم بما في صدور الناس .
أما الآية الثانية: فمن المحتمل أن تكون تضمنت توكيدا بأن الله تعالى يعلم المؤمنين الصادقين في إيمانهم ويعلم المنافقين فيه .أو تكون قد قصدت تقرير كون ما حكته الآية الأولى امتحانا يمتحن الله به الذين يقولون آمنا ليظهر المؤمن الصادق من المنافق .
تعليق على آية
{ومن الناس من يقول آمنا بالله} الخ
والآية التالية لها وتلقيناتها
والآيتان تمام الآيات الإحدى عشر التي ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها مدنية وقد روى المفسرون{[1596]} أنهما نزلتا في أناس كانوا أسلموا وتخلفوا عن الهجرة إلى المدينة وأكرههم زعماء قريش على الخروج معهم إلى بدر فلما انتصر المسلمون في وقعة بدر قالوا: إنا مسلمون وإنا خرجنا مكرهين وطالبوا بحصة من الغنائم .كما رووا أنهما نزلتا في أناس من المنافقين في مكة إذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر تفاديا من الأذى .
ومع ما يبدو من اتساق بين الرواية الأولى والقسم الأول من الآية الأولى ،فإن القسم الثاني منها والآية الثانية تنقضان ذلك .فإذا كان هؤلاء قد انحازوا إلى جانب المسلمين أثناء وقعة بدر فيكونون قد انحازوا مخلصين حالما أمكنتهم الفرصة ولا ينطبق عليهم وصف المنافق .وإذا لم يكونوا قد انحازوا أثناء الوقعة فلا يكون محل لادعائهم ؛لأن الفرصة أمكنتهم للانحياز فلم يغتنموها .ولذلك نحن نشك في صحة الرواية والمناسبة .هذا مع التنبيه على أن الرواية لا تستند إلى إسناد صحيح .
ووصف{المنافقين} من الأوصاف القرآنية المدنية ،كما أن الصورة التي احتواها القسم الثاني من الآية الأولى مماثلة لصورة مدنية حكتها آيات مدنية عن المنافقين منها هذه الآية في سورة النساء{الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا 141 .} ولكن القسم الأول من الآية الأولى ينقض هذا ؛لأن الصورة التي احتواها هي صورة مكية ،من حيث إن المؤمنين إنما كانوا يتعرضون للأذى في مكة .ولهذا فنحن نرى الرواية الثانية التي رواها الطبري والبغوي عن الضحاك ومجاهد هي الأوجه ونرجح بالتبعية مكية الآيتين أسوة بسابقاتهما وبسبب ما تلهمه الآيات الآتية بعدهما من جهة ؛ولأنه ليس من مناسبة أو سياق يبرر أن احتمال مدنيتهما بدون تناقض كما أن حكمة وضعهما هنا – لو كانتا مدنيتين حقا – غير ظاهرة من جهة أخرى .
ويتبادر لنا أن الصلة قائمة بينهما وبين الآيات السابقة لهما مهما بدا عكس ذلك لأول وهلة .فقد احتوتا مشهدا من المشاهد التي كانت تظهر في صفوف المسلمين مثل ما احتوت سابقاتهما .وبينما احتوت الآيتان السابقتان لهما مباشرة وعدا وبشرى احتوت هاتان وعيدا وتنديدا حسب الصورة التي انطوت في كل من الجملتين .ولعل من الممكن لمس الارتباط بينهما وبين الآيات الأولى من السورة بما انطوت عليه هذه الآيات من ذكر احتمال تعرض المؤمنين للفتنة والامتحان .ثم ما احتوته الآيتان السابقتان لهما مباشرة من صورة من صور الفتنة احتوتاهما هما من صورة أخرى من صورها .أما تعبير{المنافقين} فليس في رأينا قرينة قاطعة على مدنية الآيتين .فالكلمة بمعنى المرائين ومرضى القلب والهائبين والمترددين والمتخوفين .وليست هذه الصورة مستحيلة الظهور في العهد المكي بين صفوف المسلمين .
ولقد احتوت إحدى آيات سورة النحل التي مر تفسيرها ما يفيد أن بعض الذين آمنوا ارتدوا في العهد المكي وشرحوا صدرا بالكفر وبعضهم ارتد مكرها أو فتن عن دينه ،ثم عاد إلى الإسلام على ما مر شرحه .وقد يكون في هذا مصداق مؤيد لتوجيهنا إن شاء الله .ومع ما يمكن للصورة التي تضمنتها الآيتان من خصوصية زمنية فإنهما انطوتا على تلقين قرآني جليل في صدد صورة أو حالة يمكن أن تظهر في كل وقت ومكان وتستحق التنديد والتقريع .فصدق إيمان المرء إنما يثبت حينما يتعرض للامتحان من أذى أو إغراء ،فإذا لم يتضعضع فهو المؤمن حقا المستحق لرضوان الله وثوابه .أما الذين يتظاهرون بالإيمان في أوقات السعة والعافية أو لقاء منافع ومغريات ثم يتنكرون لإيمانهم وقت الشدة فهم المنافقون الذين ليس لهم في صفوف المخلصين مكان ،المستحقون لسخط الله وغضبه وعقابه ولسخط الصادقين من المؤمنين ونبذهم واحتقارهم .وبناء على هذا لم نر محلا للتعليق هنا على النفاق والمنافقين وإيراد الأحاديث الواردة فيهم بمناسبة ورود الكلمة ورأينا تأجيل ذلك إلى سورة البقرة المدنية التي ذكروا ووصفوا في الآيات الأولى منها .