للإيمان نتائجه الصعبة في حياة المؤمنين ،الذين يواجهون الكفر والكافرين ،فيتعرضون لضغوطٍ قاسيةٍ من التعذيب والتنكيل والتشريد ،ليرجعوا عن إيمانهم أو ليتراجعوا عن مواقفهم ،ما يفرض عليهم أن يستعدوا لذلك في روحية القوّة المنفتحة على الله التي تستعلي على الآلام ،ولا تسقط أمام الضغوط ولا تنهار أمام التحدي .
ولكن بعض الناس قد لا يتحملون ذلك ،لأنهم لا يعيشون مسؤولية الإيمان ولا يدركون خطورته ،بل يعتبرونه مجرّد موقفٍ من المواقف التي يصلون من خلالها إلى غاياتهم الذاتية في ما يحققونه لأنفسهم من مصالح ومطامع ،ولهذا فإنهم يقيسون القضية بحجم النتائج الإيجابية أو السلبية في الدائرة الخاصة ،لأنهم ليسوا أصحاب مبادىء ،بل أصحاب مصالح ،فإذا تأثرت مصالحهم ،ثاروا على الإيمان والمؤمنين ،وابتعدوا عنهم ،واعتبروا القضية ضريبةً فادحةً بالنسبة إليهم ..وإذا كانت هناك فرصةٌ طيبةٌ للربح ،اقتربوامن خلالهامن المؤمنين ،وأعلنوا انتماءهم للإيمان وللإسلام .
المنافق لا يصبر على الأذى
إنهم المنافقون الذين يعلم الله خفاياهم ،فلا يغيب عن علمه شيءٌ من ذلك كله{وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ} أي كان الإيذاء متوجهاً إليه بسبب إيمانه بالله وعلاقته به ،من خلال تعرّض مصالحه للخطر وعلاقاته بمواقع القوّة في الحياة للتعقيد ،أو تعرّض جسده للتعذيب والتنكيل .وقد فسّر البعض الكلمة على أساس الحذف ،أي أوذي في سبيل الله ،في ما يفرضه ذلك من ضريبة المواجهة في خط الجهاد .ولكن الظاهر أن الكلمة ليست واردةً في هذا السياق ،لأن هؤلاء الجماعة لم يتحركوا في خط الجهاد ليلحقهم أذاه ،لا سيّما أن السورة مكيةٌ ،في ما تقول بعض الروايات ،ما يعني أنها دائرة في سياق الأذى المترتب على الالتزام العقائديالإيماني ،ولكنها يمكن أن تختزن بعض المعاني التي تشمل ذلك ،على أساس أن الإيذاء المترتب على الالتزام العقائدي للشخص إنما يناله من جهة كونه موقفاً في مواجهة موقف الكفر ،وموقعاً من مواقع القوّة لله ،فإذا حدث ذلك للإنسان منهم{جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} ،فكما يهرب الإنسان من عذاب الله فيترك كل شيءٍ يؤدي إليه لأنه لا يستطيع تحمّله لخطورته وقسوته ،فإنه يهرب من فتنة الناس في ما تحتويه من ضغوطٍ وتهاويل ،وفي ما تثيره من مشاكل في داخل حياته .
ادعاء الإيمان عند النصر
{وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} وذلك في ما يحصل عليه المؤمنون من انتصارات على مستوى قوّة الدعوة ،عندما يرتاح الموقف ،ويبتعد عن أجواء الاضطهاد والتنكيل .وقد فسّرها البعض بالنصر الذي حصل للمسلمين فيما بعد الهجرة ،لأنهم لم يحصلوا على أيّ موقعٍ للقوّة قبل ذلك ،مما يمكن أن يعبّر عنه بالنصر ،بل كانوا في موقع الضعف ،حيث اضطر البعض منهم للهجرة إلى الحبشة .وعلى ضوء ذلك ،فإن الآية تكون مدنية لا مكية ،على خلاف المعروف المشهور من ذلك وهو قريبٌ ،مع إمكان إثارة ملاحظةٍ معينة ،وهي أن الآية كانت تعالج النماذج في نطاق الجوّ العام لحركة الدعوة في حياة الناس المنافقين بين واقع الضعف وواقع القوّة ،لا في نطاق الحالات الخاصة ،لنبحث عن النموذج في داخل مرحلة معينةٍ من خلال أفرادها ،والله أعلم .
الله أعلم بما في الصدور
{أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ} فلا يخفى عليه منهم شيءٌ .فكيف يتحدثون مع المؤمنين بأنهم كانوا معهم ،وأنهم المخلصون لعقيدة الإيمان وللمجتمع المؤمن ،والله يعلم بما في صدورهم من عقيدة النفاق التي تظهر الإيمان وتبطن الكفر ؟!