جاءت هذه الآيات معقبة على ما سبقها وبسبيل توكيد استحقاق الله وحده للخضوع والعبادة ،وقد استعمل فيها ضمير المخاطب الجمع كأنما هي موجهة للسامعين وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر .
وهي قوية رائعة في أسلوبها ولفتها النظر إلى مشاهد عظمة الله ونواميس ملكوته وخلق الناس والأنعام وأفضاله على خلقه ،بسبيل البرهنة على استحقاقه وحده للعبادة وضلال الذين يشركون غيره معه فيها .
تعليق على جملة:{خلقكم من نفس واحدة} وما بعدها:
وقد قرر جمهور المفسرين أن جملة{خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها} تعني الإشارة إلى أصل خلق بني آدم حيث خلق الله آدم من تراب ثم نفخ فيه من روحه ثم خلق زوجته حواء من ضلع من أضلاعه .وهذا ما ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين .
وقد يكون القصد من الجملة الإشارة العامة إلى النوع الإنساني الذي خلقه من زوجين من جنس واحد فكأنما هما نفس واحدة ،وقد يكون ضمير الجميع المخاطب من القرائن على هذا القصد في هذا المقام .
وقد قرر جمهور المفسرين كذلك أن جملة{خلقا من بعد خلق} تعني الصور التي تتطور بها الأجنة في بطون الأمهات ،وأن جملة{في ظلمات ثلاث} تعني ظلمة صلب الرجل ؛حيث تكون النطفة أولا ،ثم ظلمة رحم المرأة حيث تنمو النطفة ،ثم ظلمة المشيمة التي تلف الجنين في الرحم .
وقرروا كذلك أن جملة:{وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [ 6] في معنى خلق لكم من كل نوع من الأنعام الأربعة وهي الضأن والمعز والإبل والبقر على ما جاء بصراحة في آيات سورة الأنعام [ 143 – 144] التي مر تفسيرها .
ولقد علقنا على ما جاء في الآيتين الأولى والثانية في سياق آيات مماثلة في سورتي الأعراف ويس بما يغني عن التكرار .ونكتفي بالقول هنا بمناسبة ما ورد في الآية الثانية من الإشارات إلى كيفيات الخلق أن أسلوب الآيات ومضمونها ما يدل على أن القصد منها كما هو في أمثالها الكثيرة على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة هو التنبيه إلى مشاهد عظمة الله وقدرته ونعمه على الناس بأسلوب يتسق مع أفهام الناس على اختلاف فئاتهم ،وبما هو ماثل أمام أعينهم وفي أنفسهم وما يتمتعون به من وسائل الحياة ،وليس تقرير نواميس كونية وخلقية من وجهة فنية ،والواجب عدم تجاوز هذا النطاق في هذه الآيات ؛لأن ذلك ليس من المقاصد القرآنية .
تعليق على جملة:{إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم}:
والآية الأخيرة من الآيات الحاسمة في تقرير كون كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وما ينشأ عن ذلك من الهدى وعمل الصالحات والضلال والكفر ،واقتراف الآثام إنما هو من مكتسبات الإنسان وقابلية الاختيار التي شاء الله أن يودعها فيه .وفي تقرير وتنزيه الله عز وجل عن تحتم الكفر والإثم على أحد تحتيما لا يجعل له مناصا منهما .فهو الغني عن الناس إن كفروا به ولا يرضى بذلك ولا يحبه لهم قط في حين أنه يرضيه منهم أن يعترفوا به ويشكروه ويحبه لهم .
ومع وضوح الآيات ومقاصدها في التنويه بالشكر والتنديد بالكفر فإن أصحاب المذاهب الكلامية تشادوا حولها فقال بعضهم: إن عدم الرضا وعدم الإرادة في معنى واحد ،وإن الكفر لا يمكن أن يقع بإرادة الله .ورد عليهم مخالفوهم فقالوا: إن هناك فرقا بين الرضا والإرادة ولا يقع في ملك الله إلا ما أراد وإن كان لا يرضى عن بعض ما يقع .ونحن نرى التشاد حول الآية تكلفا لا تقتضيه ولا تتحمله ،ولو كان مقصد كل فريق تقديس الله من وجهة نظره .ونرى الأولى أخذ الآية وأمثالها على مقصدها الواضح فيها ،وهو الحث على الإيمان والشكر والتنديد بالكفر والتحذير معه .