ولإثبات حقيقة أنّ الله لا يحتاج إلى مخلوقاته ،ولبيان دلائل توحيده وعظمته ،يقول البارئ عز وجل: ( خلق السموات والأرض بالحق ) .
كون تلك الأُمور حقّاً دليل على وجود هدف كبير من وراء خلقها ،وذلك لتكامل المخلوقات وفي مقدمتها الإنسان ،ثمّ لا تنتهي عند البعث .
بعد عرض هذا الخلق الكبير ،تشير الآية إلى جوانب من تدبيره العجيب ،والتغيرات التي تطرأ بحسابات دقيقة ،والأَنظمة الدقيقة أيضاً التي تحكم أُولئك ،إذ يقول القرآن المجيد: ( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) .
ما أجملها من عبارة !فلو وقف الإنسان في منطقة تقع خارج نطاق الكرة الأرضية ،ونظر إلى مشهد حركة الأرض حول نفسها وتكون الليل والنهار اللذين يطوقان سطحها المكور ،لشاهدبصورة منتظمةأن سواد الليل يستولي على طرف النهار من جهة ومن الجهة المقابلة يرى بأن ضوء النهار يستولي محركة مستمرة على ظلام الليل .
«يكور » من ( تكوير ) وتعني الشيء المتكور أو المنحني ،ويعتبر أصحاب اللغة تكوير العمامة على الرأس نموذجاً للتكوير ،وهذا التعبير القرآني الجميل يكشف عن بعض الأسرار ،لكن الكثير من المفسّرين نتيجة عدم التفاتهم إلى كروية الأرض ذكروا مواضيع أخرى لا تناسب مفهوم كلمة ( التكوير ) ،فمن هذه الآية يتجلّى لنا أن الأرض كروية وتدور حول نفسها ،ومن جراء هذا الدوران ،يطّوق الأرض دائماً شريطان ،أحدهما سواد الليل ،والثّاني بياض النهار ،ولا يبقى هذان الشريطان ثابتين ،وإنّما يغطي الشريط الأسود الأبيض من جهة والشريط الأبيض يغطي الأسود من جهة أخرى ،أثناء حركة الأرض حول نفسها .
وعلى أية حال ،فإنّ القرآن المجيد يبيّن ظاهرة الليل والنهار و ( النور ) و ( الظلمات ) في عدّة آيات مختلفة ،كلّ واحدة منها تشير إلى نقطة معينة ،وتنظر إلى هذه الظاهرة من زاوية خاصة ،فأحياناً يقول: ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ) .الحديثهنايتطرق لتوغّل الليل في النهار وتوغل النهار في الليل التي تتمّ بصورة بطيئة وهادئة .و أحياناً أخرى يقول: ( يغشى الليل النهار ) ،وهنا تمّ تشبيه الليل بستائر مظلمة تنزل على ضياء النهار وتحجبه .
ثمّ تنتقل إلى جانب آخر ،ألا وهو التدبير والنظام الدقيق المسير لشؤون هذا العالم ،قال تعالى: ( و سخر الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمى ) .
فلا يظهر في حركة الشمس التي تدور حول نفسها ،أو التي تتحرك مع بقية كواكب المجموعة الشمسية نحو نقطة خاصّة في مجرة درب التبانة أدنى خلل ،فهي تتحرك وفق نظام خاص ودقيق جدّاً ،ولا يظهر أي خلل في حركة القمر أثناء دورانه حول الأرض أو حول نفسه ،فالكلّ يخضع لقوانين ( الخالق ) ويتحرك وفقها ،وسيستمر في التحرك وفق هذه القوانين حتى آخر يوم من أجله .
ويوجد احتمال آخر ،وهو أنّ المراد من تسخير الشمس والقمر هو تسخيرها للإنسان بإذن الله ،كما ورد في الآية ( 33 ) من سورة إبراهيم: ( وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ) .ولكن بالالتفات إلى الجملة السابقة واللاحقة في هذه الآية مورد البحث ،إضافة إلى عدم ورود كلمة ( لكم ) في الآية ،يجعل التّفسير المذكور أعلاه مستبعداً بعض الشيء .
نهاية الآية كانت بمثابة تهديد وترغيب للمشركين إذ تقول: ( ألا هو العزيز الغفار ) فبحكم عزّته و قدرته المطلقة لا يمكن لأي مذنب ومشرك أن يهرب من قبضة عذابه ،وبمقتضى كونه الغفّار ،فإنّه يستر عيوب وذنوب التائبين ،ويظللهم بظلّ رحمته .
«غفار » صيغة مبالغة مشتقّة من المصدر ( غفران ) وتعني في الأصل لبس الإِنسان لشيء يقيه من التلوّث ،وعندما تستخدم بشأن الباري ،عز وجل فإنّها تعني ستره لعيوب وذنوب عباده النادمين وحفظهم من عذابه وجزائه ،نعم فهو ( غفار ) في أوج عزته وقدرته ،وهو ( قهار ) في أوج رحمته وغفرانه ،والهدف من ذكر هاتين الصفتين في آخر الآية ،هو إيجاد حالة من «الخوف » و «الرجاء » عند العباد ،وهما عاملان رئيسيان وراء كلّ تحرك نحو الكمال .